الحذاء العربي

TT

أن يبدي أي مواطن اميركي استياءه من السياسات التي انتهجها الرئيس جورج بوش في العراق، وعلى مستوى العالم، فالأمر اكثر من طبيعي، لأن الرجل افقد في سنين حكمه الولايات المتحدة كثيرا من بريقها الحقيقي والمزيّف، كرائدة للديمقراطية في العالم، ورفع منسوب الكراهية للاميركيين في اكثر من منطقة من كوكبنا الذي اسهمت بعض سياسات بوش في زيادة سخونته سياسيا وبيئيا. كما انه افقد اميركا موقعها المميز الذي اراده لها مهندسو دورها كامبراطورية بقفازات من حرير، وانتهت معاركه مع «القاعدة» بنصف نجاح اقرب الى الفشل في العقل الاميركي الباحث عن نهايات سعيدة واضحة، ينتصر فيها البطل الاميركي ويموت خصمه ابشع ميتة، والامران لم يحصلا، فإدارة بوش لم تنتصر، وبن لادن ورفاقه وورثته مستمرون بتسجيل اشرطة تخطى انتشارها اعمال اهم الفنانين.

ولم يفلح بوش حتى في تأمين سلّم المصالح الاميركية، حيث ثبت ان حربه على العراق كبدت الخزانة الاميركية اكلافا مادية، لا يمكن جنيها لو نهب الاميركيون ثروة العراق كاملة لعشرين سنة قادمة، هذا فضلا عن الخسائر البشرية اضافة الى الانتكاسات الاستراتيجية التي افقدت اميركا ثقة معظم حلفائها او المتعاونين معها من دكتاتوريات عاتية. كما ان حربي افغانستان والعراق فتحت لإيران بابا نحو قلب آسيا الوسطى، وصولا الى شبه القارة الهندية ثم الخليج والمشرق العربي على مصراعيه، بعدما سقط جل العراق والنظام السوري برمته في القبضة الايرانية، وتسير افغانستان ومعها جاراتها على درب السقوط في فلك الامبراطورية الاقليمية العتيدة.

ما تكبده المواطن الاميركي لا يمكن ان يستوعبه بسبب حلم الرئيس بوش او زعمه العمل لتحقيق ديمقراطية في الشرق حصد ثمارها حذاءين عراقيين «عربون وفاء وتقدير» من صحافي في بلد اراده بوش ديمقراطيا، فكان له ما اراد.. لكن على الطريقة العربية.

وأخطر ما في هذا المشهد، ان بعض العرب والغربيين سيستنتجون بتسرّع انقطع نظيره، ان الديمقراطية عند العرب تنتهي الى هذا النوع من الصور، وهكذا يتبيّن يوما بعد آخر ان الديمقراطية الوافدة من وراء البحار بضاعة فاسدة وغريبة عن الجسم العربي، الذي رضع مصل الاستبداد ليرتع في مزارع الجمهوريات الوراثية.

يحق اذا للمواطن الاميركي ان يستاء ويخجل ويغضب من بوش، ويحق للمواطن العربي ان يحنق مدفوعا بسحر الشعارات الهاتفة: الموت لاميركا، ويحق كل الحق للعراقي ان يسخط على من خاض حربا اعلن بعدها احتلال عاصمة الرشيد، لكن وصول الغضب العراقي الى حدود رمي رئيس الولايات المتحدة بحذاء، يجب ان يقترن بحقيقة مهمة، وهو ان الصحافي الصنديد يدين بـ«انجازه التاريخي» الى خيرات العم بوش، حتى ان وجود الصحافة الحقيقية في العراق هي بدعة بوشية بامتياز.

والأهم في يوم الحذاء انه تحوّل الى احتفالية، ادرجت في متن المدونة الشعاراتية العربية، واصبح عنوان تظاهرات شعبية وحديث الناس من المحيط الى الخليج، ليس لكونه حادثة مستغربة او طرفة وقحة او حالة تعبيرية جديدة، كما دار في صحافة العالم طولا وعرضا، لا بل لأنه في دنيا العرب ملحمة بطولية فاقت لدى البعض عبور السويس واسر حزب الله للجنديين الاسرائيليين، وصارت الشغل الشاغل لعرب المقاومة وصالونات الممانعة، وموضوع رسائل المنتديات والمواقع الالكترونية، حتى ان نائبا في حزب الله افتتح بها كلامه في البرلمان اللبناني، واصفا اياها بصلية لصحافي مبدع، وعليه يمكن لأي صحافي عربي يريد اليوم طرق باب الابداع ان يرمي قلمه ويحمل حذاءه.

على هذا النحو انتشرت قصة بطل الحذاء كالنار في الهشيم، واصبح الحذاء المرشوق، عنوانا للشرف العربي «المهروق»، ومنطلقا لمواجهة بطولية وربما تولد لنا اسطورة الحذاء التي تلوكها الالسن لتصنع مخيلة الاطفال وتغذّي احلامهم وتسعف ذاكرتهم بما صنعته اليد العربية ـ طبعا سوف تغفل الاسطورة كون الحذاء ايطالياً والكاميرا التي صوّرت الحدث يابانية، والقمر الصناعي اميركيا، واجهزة الحاسوب التي اشاعت الخبر صينية ـ المهم ان اليد التي رشقت الحذاء عربية اصيلة. وقد يتحفنا المطرب المصري المغوار شعبان عبد الرحيم بأغنية لتكريم الحذاء، ربما تكون تحت عنوان:

لما ضربت بوش يا زيدي.. رفعت راسي وجزمتي بإيدي

هذا هو حال معظم العراقيين الذين خرجوا من سطوة الحذاء الصدّامي على يد بوش، فردوا للأخير الحذاء حذاءين.

وهذا هو حال الغالبية في دار العروبة والاسلام زهو بالانتصار، حتى ان رجلا ناصريا عتيقا قال لي: انها المرة الثانية التي يبكي فيها، منذ مسيرة طلب العودة لعبد الناصر، فاقترحت عليه ان يخرج الناصريون الجدد الى الشارع بشعار «ارفع حذاءك يا أخي».

وهذا هو حال الأمم في ازمنة انحطاطها تلخّص معاركها وتختزلها بأي شيء، وتصل معنا نحن العرب الى ترميز المعركة بحذاء مرشوق بوجه قيصر العصر الحديث. اما حال اغلبية مثقفينا ونخبنا اليوم فكارثة موصوفة، بعضهم يلتزم صمتا كصمت القبور، والبعض الآخر يسير مع الجمهور الجارف كالسائر في جنازته حاملا نعش أفكاره بكلتا يديه، حتى ان احدهم نصحني بألا اكتب في هذا الموضوع معارضا مزاج الناس، ارادني ان اسكت ربما تحت شعار «لا صوت يعلو فوق صوت الاحذية» هذه الاحذية التي ذاع صيتها في حرب تمّوز عندما لخصت بعض اللبنانيات خسائر المعركة من املاك واخوة وابناء بقولهن: كله فداء لحذاء السيد حسن.

لكن قصة العرب مع الحذاء تمتد جذورها في التاريخ وتضرب على وتر الغريزة في ذاكرة مثخنة بالهزائم، تريد ان تعوّض بأي شيء نكسات كثيرة، منها صورة الجندي الاسرائيلي الذي كان يدوس بحذائه بعض الجنود المصريين بعيد استسلامهم في سيناء، والصورة المتلفزة للجندي العراقي الذي كان يقبّل حذاء جندي اميركي بعد غزو العراق في حرب الخليج الثانية، اضافة الى الرواية الشهيرة ـ يوم سقوط الامبراطورية العثمانية واجتياح الحلفاء للعالم العربي ـ حين وقف قائد القوات الفرنسية الغازية على قبر محرر القدس، وداس عليه بحذائه قائلا: ها قد عدنا يا صلاح الدين.

لكن ثمة بين كل تلك الحوادث وحادثة اطلاق الحذاء على بوش قاسم مشترك، وهو ان العرب فيها جميعها واقعون تحت الاحتلال يعانون من نير حذاء الغازي، او يرشقونه بحذاء في ثورة غضب.. لا فرق.

واذا ما استمر العرب ينسجون على هذا المنوال، ويخوضون معارك «دونكيشوتية» بالأحذية في مواجهة الآلة العسكرية والتقنية والثقافية الغربية والشرقية، سيبقى رأس انتصاراتهم منع الغزو العسكري والثقافي.. الى حين. وستبقى الأحذية الخارجية المدعومة بالآلة العسكرية تستهلك تاريخهم وثقافتهم وقيمهم، قبل ان تستهلك بعضها الآخر احذيتهم الفادية أو تلك المتمردة على واقع هزيل، يرسم صورة هزلية لحلم عربي صار بقياس حذاء.

* كاتب لبناني