حديث عن حذاء منتظر الزيدي؟

TT

كان الأسبوع الماضي بلا جدال هو أسبوع منتظر الزيدي وحذائه الذي انطلق مثل الصاروخ باتجاه الرئيس الأمريكي جورج بوش؛ ولم يكن ذلك راجعا فقط لما جرى في تلك القاعة التي شهدت الحدث، ولكن لما جرى بعد ذلك على امتداد «الوطن العربي». وليس المقصود هنا التقليل من أهمية ما جرى، فقد كان لذلك أهمية تاريخية، وربما سوف يحفر يومه في ذاكرة تاريخ الأحذية في العلاقات الدولية، ولم تخل صحيفة واحدة في العالم من التذكير على سبيل المباهاة بالحذاء الذي طرق به نيكيتا خروشوف رئيس الوزراء والسكرتير العام للحزب الشيوعي السوفيتي مائدة الجمعية العامة للأمم المتحدة. وبالطبع لم يهتم أحد بعد ذلك بما جرى لخروشوف وكيف تمت إزاحته من السلطة، ولا اهتم أحد بما جرى للاتحاد السوفيتي، ولكن المهم أن الواقعة بقيت، كما سوف تبقى واقعة منتظر الزيدي، علامة على تلك اللحظة التي يقرر فيها فرد إرسال رسالة إلى العالم كله. وهذه المرة كانت الرسالة إدانة كاملة لعملية غزو وعدوان واحتلال قادت إلى عملية أخرى لا تقل حدة ظهرت فيها الأحشاء الحقيقية للمجتمع العراقي، وما فيه من أحقاد تاريخية وطائفية، أدت كلها في النهاية إلى أكبر عملية تدمير لدولة من داخلها وخارجها في نفس الوقت.

وببساطة كان غضب منتظر الزيدي وجرأته وحتى شجاعته في ضرب قائد الدولة العظمى بالحذاء تجميعا لرغبات انتقام من المحتل الغازي، وتعبيرا عن عار جرى ثلاث مرات: مرة عندما كان لهذه الدولة أن تكون تحت القيادة الفاشلة لنظام البعث العراقي وقائده صدام حسين؛ ومرة عندما سقط هذا النظام مثل أوراق اللعب خلال أسابيع معدودة سافرا عن أكاذيب فاضحة؛ ومرة عندما لم يتمكن المجتمع من الصمود في وجه الاحتلال، بل على العكس انقسم بين مؤيد ومعارض، وما بين المؤيد والمعارض نشبت حرب أهلية مغرقة في وحشيتها، وبعد ذلك كله لا يزال على الجميع العيش في ظل دولة واحدة تهتف لعلم واحد وتتحدث عن الشعب والجماهير والتاريخ المشترك؟.

ومع ذلك فإن الواقعة تظل كاشفة عما هو أكثر من تفاصيلها المثيرة ودخائلها الغامضة وأطرافها المباشرين، فقد كشفت عن حالة من مخزون البحث عن البطل، ولم يكن ذلك واقعا في بغداد وحدها حيث خرجت المظاهرات ملوحة بالأعلام والأحذية، بل أيضا على امتداد العالم العربى؛ وكانت المظاهرة الأكثر حدة جارية بعبارات ساخنة وحارة في كل الفضائيات العربية. وهذه المرة ظهر حذاء الزيدي مئات المرات في طريقه من اليد إلى جورج بوش الذي لم تحرز مرونته الملحوظة نقاطا تذكر، ولا تم ذكر الاعتذارات المتكررة من الصحفيين العراقيين، لأنه كان مهما تسجيل اللحظة واختزالها في آن واحد لكي تكون بطلا عراقيا يضرب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية بالحذاء. وفي الخليج كان هناك من بين الأغنياء من هو على استعداد لشراء الحذاء بالملايين، أما في القاهرة فقد كانت هناك أسرة على استعداد لكي تهب ابنتها زوجة إلى منتظر بعد خروجه من السجن بالطبع.

وهكذا كشفت الأمة عن نفسها حيث لا تزال تبحث عن البطل والمخلص أو حتى المنتقم الجبار الذي لا يخشى أحدا ويجعل عار الأمة يذهب، وشرفها يعود، ساعة انتقال الحذاء من يد الزيدي إلى وجه بوش. وفي الماضي كان الانتظار دائما لصلاح الدين الذي يوحّد الأمة ويقودها إلى نصر حطين، ولكن صلاح الدين لم يأت، وعندما أتى تحت أقنعة صدام حسين وحافظ الأسد ومن قبلهما جمال عبد الناصر على اختلاف أوزانهم وتاريخهم وإنجازاتهم ـ وقسوتهم أيضا ـ كانت النتائج دائما فادحة. ولكن الأمة بقيت على إخلاصها للبطل الواحد، والمخلص الذي لا بديل له، وكل ما حدث أن صلاح الدين تواضع كثيرا لكي يكون منتظر الزيدي، وصدأ السيف أكثر حتى صار حذاء!.

وكشفت الواقعة ما هو أكثر من توحد الشعوب وهو أن هناك توافقا عاما لا شك فيه بين المثقفين والكتاب ندر حدوثه من قبل، ومن قال إن المثقفين والكتاب العرب على خلاف وصراع دائم لا يعرفون التأثير التاريخي للأحذية. فكم كان مدهشا أن تتلاقى كل صحف القاهرة التي لا تتفق على أمر في الاحتفاء بما جرى في بغداد وتفرد له كل العناوين الرئيسية، والمقالات الافتتاحية، والأعمدة اليومية؛ فمعنى ذلك أن التوافق الوطني والقومي ممكن في أمور أخرى بعد أن كان هناك من أصابه اليأس من اختلافات مزمنة. وربما لم يحدث في التاريخ القريب أن التقت صحيفتا «البديل» و«روز اليوسف» وكل الصحف الأخرى ـ فيما عدا «الدستور» ـ على أمر مثلما تم الالتقاء على العظمة الظاهرة لحذاء منتظر الزيدي.

وحتى تظهر الصورة كاملة فقد كانت إدانة جورج بوش في الولايات المتحدة التي يرأسها تظهر ثقافة مختلفة؛ فعندما فشل الرجل في سياساته الخارجية والداخلية فإن الرد الأمريكي عليه كان الإطاحة بأغلبية حزبه في انتخابات التجديد النصفي للكونجرس قبل عامين، ثم بعد ذلك الإطاحة بحزبه كله من البيت الأبيض وانتخاب أمريكي من أصول إفريقية لكي يكون التغيير شاملا. والحقيقة أنه في مجال الفن والفكر كانت الإدانة مبكرة، ولعلنا نذكر الفيلم الشهير عن الحادي عشر من سبتمبر (9/11) والذي أخرجه مايكل مور والذي جعل من جورج بوش سخرية أمريكية؛ وقبل أن يخرج بوش من البيت الأبيض كان أوليفر ستون قد أنتج فيلم W الذي قال كلمة قاسية في رئيس فاشل. وهكذا كان الرد الأمريكي على رئيس فشل في كل ما قام به، أما الرد العربى فلم يكن أبدا على رؤساء فاشلين لديهم، وإنما كان على رئيس دولة أخرى، وليس بفيلم أو مقالة أو برنامج، وإنما بالحذاء وليس غيره.

في مثل هذه الحالات الأمريكية، كان الشخص والقضية والسياسات معا هي موضوع البحث والاختبار، واستدعى الأمر الكثير من الفكر والتمعن والدراسة والتعلم في النهاية من تجربة فاشلة ومهينة للشخص وللدولة. ولكن لدينا كانت المسألة كلها مختلفة حيث حل الغضب مكان العقل، والرمز غطى على الموضوع، وأطاح الشكل بالمضمون، والخيال جاء بديلا عن الواقع. هناك كان سقوط جورج بوش موضوعيا من الإدارة، ومسجلا في التاريخ؛ ولدينا كان تسجيلا لموقف، وليس تعبيرا عن سياسة. والحقيقة أنه لم تكن مهمة كثيرا تلك النقطة الخاصة بمدى «المهنية» في تصرف منتظر الزيدي، وعما إذا كان كصحفي لديه خيارات وبدائل أخرى خاصة وقد جرى المؤتمر الصحفي يوم الإعلان عن الفساد في إنفاق 104 مليارات دولار في العراق، وكان السؤال حوله سوف يكشف عن إدارة أمريكية عاجزة لم تكن تكف عن توزيع النصائح على العالم.

فما كان أكثر أهمية من كل ذلك كان تسجيل الموقف، رمي الحذاء والإهانة للرئيس الأمريكي، ولم يكن هناك ما هو قبل، ولم يكن هناك ما هو بعد، ليس من منتظر الزيدي بالطبع الذي يعاني من مخالفات فادحة لحقوقه الإنسانية، ولكن من الكثرة التي تناولت حالته وهتفت في الشوارع باسمه، وتداولت في المنتديات ما فعله. لم تكن المناسبة على ما جاء فيها من احتفال فرصة لنظرة فاحصة على الحالة العراقية، ولا على تلك الحالات المماثلة الجارية في فلسطين والصومال ولبنان حيث حلت المواقف مكان السياسات، وفي النهاية كانت النتائج قرصنة وانقسامات وانقلابات عسكرية تحت مسمى «الحسم العسكري». ولم يخل الأمر من مفارقات حيث جاء في إطار تفسير ما جرى أن رمية الحذاء كانت تعويضا عن «العجز» العربي؛ وبالطبع لم يكن مفهوما أبدا كيف قام الفعل بهذه المهمة لأن «العجز» لم يبق على حاله، ولا حل له إلا أن يتحول العجز إلى قوة، والقول إلى فعل، وكل ذلك لا تستطيع كل أحذية العرب أو حتى العالم أن تغيره مهما كانت الدقة في رميها. والمدهش في الموضوع هو كيف تكون الأمة عاجزة وعدد سكانها 350 مليون نسمة يعيشون على مساحة قدر مساحة الولايات المتحدة الأمريكية، ولديهم فضلا عن الموارد الطبيعية والإستراتيجية ما يكفي وزيادة؛ ولكن أحدا لم يكن مهتما بكل ذلك لأن مشهد الحذاء الطائر كان كافيا للغاية!