مسلمون ويهود حاضرون في الفصيلة الدموية لإسبانيي اليوم

TT

نشرت في أوائل ديسمبر الجاري بيانات وردت في استطلاع ميداني شمل 1140 شخصا في 18 موقعا جغرافيا في التراب الإسباني، دل على أن 30% من الإسبانيين يحملون في دمائهم خصائص وراثية ترجع إلى أصول يهودية وشمال أفريقية.

وقد تولت إنجاز هذا البحث الميداني جامعتا ليسيستر Leicester من بريطانيا وجامعة بومبيو فابرا Pompeu Fabra الكاتالونية بإسبانيا. وقارنت الدراسة بين الخصائص الوراثية لسكان إسبانيا الحاليين في شبه الجزيرة الإيبيرية وفي أرخبيل الباليار، مع عينات لأشخاص من شمال أفريقيا وآخرين يهود سيفرديين. ونشرت النتائج في مجلة علمية أميركية تدعى American Journal of Human Genetics وهي تكشف أن الإسبان تناقلوا عبر خمسة قرون جينات من الكروموسوم Y تثبت أن هذه المنطقة شهدت تنوعا ملموسا في تركيبتها السكانية. وأشرف على الدراسة باحث بريطاني هو Mark Jobling.

ودل البحث على أن 19.8% من أفراد العينة يحملون مميزات وراثية ليهود سيفرديين، بينما يعود 10.6% لشمال أفريقيين. وقال باحث من الجامعة الكاتالونية إن الكروموسومة التي وقع اختبارها تشير إلى أن السلالة الشمال أفريقية بدأت تستقر في جينوما سكان شبه الجزيرة الإيبيرية منذ القرن الثامن الميلادي. أي منذ نزول المسلمين في الأندلس. وفوجئ الباحثون بأن الشمال الأفريقيين لهم حضور في غرب البلاد أكثر من شرقها. وقد يكون مصدر المفاجأة كامنا في أن الوجود الإسلامي عمر لمدة أطول في مملكة غرناطة، ولربما كان منتظرا أن تدل الكروموسومات على كثافة معينة أكثر مما أبدته الدراسة الميدانية التي احتفت الصحافة الإسبانية بنتائجها الأولية.

وقد تنوع تعامل هذه الصحافة مع المعطيات المذكورة، إذ أبرز بعضها الحضور الأكبر لليهود بالمقارنة مع المسلمين، بينما اكتفى البعض الآخر بإبراز رقم 30 في المائة (أي مجموع العنصرين معا) كمؤشر على استمرار الميراث الأندلسي حاضرا في الفصيل الدموي الذي يحمله أحفاد الأندلسيين القدامى. وترك في الوقت الراهن التأمل في الدلالات التفصيلية لهذه الأرقام، إلى أن يستكمل خبراء الأندلسيات البيانات التي تمكنهم من تقليب الرأي في هذه المعطيات ومقارنتها مع ما هو معروف عن الواقع السكاني في إسبانيا ما قبل 1492.

وليس غريبا أن تحتفي بعض الصحف بالأرومة اليهودية فهناك تيار منذ صانتيش ألبورنوث المؤرخ المعروف، يعتبر العنصر اليهودي أصيلا والعنصر الإسلامي دخيلا. إلا انه من الجائز القول بشيء من الاطمئنان إن نسبة اليهود في إسبانيا القديمة لم تكن في أي وقت من الأوقات متفوقة على نسبة المسلمين بمختلف مكوناتهم. وهذا الاقتناع هو الذي دفع رئيس الطائفة اليهودية المغربية السيد سيرج بيردوغو إلى أن يخاطب الملك خوان كارلوس في سنة 1992عند تصريحه بالاعتذار لإسرائيل عن قرار الطرد الذي صدر في حق أجدادهم قبل خمسة قرون، بأن ذلك الاعتذار كان موقفا حكيما، إلا أنه كان جديرا بأن يشمل المسلمين أيضا، «لأن إخواننا المسلمين نالهم نفس الظلم وكانوا أكثر عددا». ولا يقل عدد الذين مسهم الطرد من المسلمين ربع مليون نسمة.

ثم إن الاقتصار على كروموسومات اليهود السفرديين وحدهم ينطوي على مجازفة واضحة تتمثل في الاعتقاد أن الكروموسومة السامية لا تعرف إلا البيعة ولم تذهب قط إلى المسجد. أفلم يكن العرب الذين قدموا من الجزيرة ومن الشام هم أيضا ساميون.

هناك تقديرات للوضع الديموغرافي في إسبانيا القرون الوسطى، تفيد أن سكان إسبانيا لدى نزول المسلمين بها كان يدور إجمالا حول سبعة أو ثمانية ملايين. ومنذ سنة 711 وهي سنة نزول طارق بن زياد في الصخرة التي تحمل اسمه، حل بالأندلس في بداية الأمر 8000 مقاتل من شمال أفريقيا، تم تعزيزهم بـ3000 آخرين، كانوا جلهم من الأمازيغ. وبعد سنة من ذلك نزل موسى بن نصير ومعه حوالي 13 ألف مقاتل كان جلهم من العرب. وأنا أستعمل هنا الأرقام التي يقبلها ميغيل كروث هيرنانديث الذي ينظر بتشكك للأرقام التي توردها المصادر العربية، وينتقد من يساير ما يرد في تلك المصادر من أرقام ومعطيات.

ومعروف أنه في ظرف 45 سنة كانت خريطة الأندلس قد استوت بملامح استقرت عليها أغلب الوقت في ظل الوجود الإسلامي في إسبانيا. وتركبت تلك الخريطة السكانية على وجه العموم من المولدين من أبناء البلاد الذين أسلموا وهم نتاج تزاوج مع المهاجرين من أمازيغ وعرب، بالإضافة إلى يهود وصقالبة. وكان عدد المهاجرين حوالي أربعين ألفا، أقل من نصفهم من العرب. وذكر ش. أرسلان في «الحلل السندسية» أصول العرب النازلين في إسبانيا وكذا المواقع التي اختاروها لمقامهم.

ومن الطبيعي أن يكون عدد العرب قليلا، كما تتواطأ على القول مصادر مختلفة. وكثير من عرب إسبانيا تزوجوا بأمازيغيات، إذ كان عدد العربيات قليلا. وارتفع عدد الأمازيغ بسبب القرب الجغرافي، فاستقروا في أرض قريبة يعرفونها كما عرفها أجدادهم منذ قرون. وتدخلوا في الحياة السياسية الأندلسية بنشاط. واستعان بهم عبد الرحمان الثالث وهشام، من ملوك الأمويين. وكان الأمازيغ عونا للحاجب المنصور ابن أبي عامر. وكان منهم فيما بعد ملوك طوائف. ومع كل هذا الحضور الكثيف للأمازيغ، يطغى الاعتقاد بأن الطابع العربي هو الغالب.

وأما العنصر اليهودي فهو من السكان الأصليين. واعترى عدد اليهود في إسبانيا تقلب شديد. إذ اجتازوا لمدة قرنين قبل وصول المسلمين، محنا متواصلة إذ تعرضوا لتصفيات واسعة على يد من توالى على السيطرة في إسبانيا فيما بين الرومانيين والعرب. ونقص ذلك من تعدادهم.

وينقل كروث هيرنانديث المتقدم الذكر عن أشطور Ashtor الذي يركن إلى أرقامه، أن عدد اليهود في القرن الحادي عشر كان يبلغ 55 ألفا منهم 45 ألفا في الممالك المسيحية و10 آلاف في الممالك الإسلامية. وبعد تقليب مختلف التقديرات، وبعد إسقاط من تمت تصفيتهم في مذبحة 1391 في منطقة مسيحية، وأولئك الذين راحوا ضحية تصفية تعرضوا لها في مملكة غرناطة سنة 1162، ثم تعرضهم لتصفيات أيام المرابطين والموحدين، يعرب عن شكوكه في أن يكون عددهم بعد غرناطة، هو 500 ألف أو 800 ألف. ويرجح رقم 250 ألفا. ويقول إن عدد اليهود كان في عام 711 حوالي 150 ألفا.

وساعد على نمو عدد اليهود في إسبانيا انتشار النفوذ الإسلامي. فعند نزول المسلمين في العدوة اعتبرهم اليهود مخلصين لهم من الظلم الاجتماعي والسياسي الذي كانوا فريسة له. وفي ظل النفوذ الإسلامي أصبح يهود إسبانيا أكثر اطمئنانا وأوفر حقوقا وأكثر غنى وأرقى منزلة. وتولوا في المناطق الإسلامية مناصب وزارية (إثنان من بني نغريلا في غرناطة على عهد الزيريين) واشتغلوا بالأدب والطب والفلك والرياضيات. وكتب ابن ميمون كل كتبه بالعربية، لغة الثقافة والعلم في العالم آنئذ. وهاجر يهود أوروبيون إلى إسبانيا تاركين بلدانا كانت تعشش فيها القرون الوسطى.

إن الخريطة التي ترسمها العينات من الجينات التي وقع بحثها تقترب ملامحها من هذه التي رسمناها والمستقاة من البيانات التي تحتويها كتب الأقدمين. وتتحدث أحداث الماضي ونتاجاته عن تقارب شديد بين شمال أفريقيا وعدوة الأندلس، وهي منطقة يصدق عليها بتدقيق مصطلح «الغرب الإسلامي» الذي صنعه نبوغ خاص، أفرزه التنوع العرقي وعبقرية المكان.