قدر شيكاغو

TT

في لحظات مثل هذه، حري بنا أن نتذكر أن أبراهام لينكولن وآل كابوني جاءا من ولاية إلينوي. وبصورة واضحة، يتحكم نوع من التوازن في مصير تلك الولاية القابعة في قلب الولايات المتحدة، فمع كل زعيم ملهم يخرج منها، نجد أيضًا وغدًا أو اثنين ـ لصوص في مناصب حكومية، وحوش لا تفكر إلا في نفسها تعيش في أجنحة كبرى داخل الفنادق ـ وجميعهم لا يبالي بثقة المواطنين.

لذا عندما شهدت شيكاغو نشوة الانتخاب في غرانت بارك الشهر الماضي، كان يمكن لأي من العارفين بشؤون ولاية إلينوي القول إن الولاية ستشهد سقطة ما، وخلال الـ48 ساعة الماضية، جاء هذا الانهيار.

وضع سام زيل ـ قطب الصحافة الوحيد بالبلاد الذي يمقت فعليًا الصحافة ـ شارة الإفلاس على شركة تريبيون بشيكاغو ـ ليدمر أسهم موظفيه بالشركة، وحصة من معاشاتهم، في الوقت الذي يثابر فيه للخروج بنفسه معافى. وتم إصدار لائحة اتهام ضد رود بلاغوفيتش ـ حاكم ولاية إلينوي ـ شملت مزاعم عن محاولته عرض مقعد أوباما بمجلس الشيوخ للبيع في مزاد خاص، على أن تذهب جميع الأرباح، والعوائد المنتظرة من هذا المزاد الخاص لصالح رود بلاغوفيتش.

ومع إلقاء القبض على بلاغوفيتش، والكشف عن نصوص مفاجأة لمحادثاته الغبية، قدم باتريك فتزغيرالد ـ ممثل الإدعاء الفيدرالي ـ معروفًا لزيل: إذ أزال اسمه من على الصفحات الأولى للجرائد. ومع ذلك، فإن جوهر القصتين لكل من بلاغوفيتش وزيل يرويان نفس الأمر، رجال يشغلون مناصب عليا ذات سلطات كبيرة، يعتقدون أن مسؤولياتهم الحقيقية هي تلك التي تخصهم فقط. قال بلاغوفيتش في إحدى المحادثات عن مقعد مجلس الشيوخ: «إنه شيء قيم، ولا يمكنك حتى تقديمه هكذا بدون مقابل».

لقد كان أسبوعا عظيما لإحياء حكايات نموذجية: نجح بلاغوفيتش في الظهور كسياسي سلطوي أتى مباشرة من مسرحية «ذي فرنت بادج»، وثمة شبه، ليس عرضيا، بين زيل والرجل الذي اختير في هذا الوقت من العام ليلعب دور سكروغ (وتعني البخيل، بطل إحدى الروايات الشهيرة لتشارلز ديكنز). إلا أن ديكنز لم يكن ليتوقع أن يتمتع سكروغ بمثل هذه السلطة والنفوذ. لقد استخف زيل وقوض إلى حد كبير من العاملين الصحف الكبرى التي يمتلكها، ومنها (لوس أنجليس تايمز) تعتبر صحيفة وطنية كبرى. وفعل هذا لدفع الدين الذي تكبده عندما اشترى صحيفة تريبيون العام الماضي؛ الدين الذي تكبده لرفضه ضخ الكثير من أمواله الخاصة في الصحيفة. وبدلاً من ذلك، دفع للشركة من خطة لامتلاك الموظفين أسهم بالشركة وصلت قيمتها إلى 8.2 مليار دولار (الخطوة التي لم يكن لموظفي الشركة أي رأي فيها البتة)، وفي المقابل، اقترض مبالغ مهولة من البنوك لجعل الشركة تواصل أعمالها.

وبمجرد وصول تريبيون لمرحلة الإفلاس، أصبحت أسهم الموظفين في الشركة ـ وستظل ـ بلا قيمة. وعلى الجانب الآخر، نهض زيل لاسترداد حصة مقبولة من استثماراته الخاصة البالغة 315 مليون دولار، لأنه هيكلها بطريقة تجعل محكمة الإفلاس تعامله على أنه دائن، يا له من شخص زكي. وبالنسبة للعدد الكبير من الصحافيين والمحررين والموظفين المصروفين من الخدمة، والذين مازالوا يتقاضون مكافآت نهاية الخدمة، أعلنت تريبيون أنه لن يتم تقديم المدفوعات الخاصة بهم بعد الآن، ولا يعد زيل الجهة الوحيدة التي تستحق اللوم فيما وقع لتريبيون.

وقد كان بإمكان أعضاء مجلس الإدارة الذين باعوا الشركة، أن يبيعوها ـ في حصص ـ إلى مشترين لديهم الرغبة في ضخ أموالهم، إذ عرض دافيد جيفين قطب هوليوود مليار دولار لصحيفة لوس أنجليس تايمز، بيد أن الأشخاص الذين كانوا يديرون الشركة لعقود آثروا بيعها لأحد الأشخاص من شيكاغو ليست لديه خبرة في المجال الإعلامي، في صفقة جنوا من ورائها الملايين، ولم تضع أي شخص موضع مخاطرة عدا الموظفين. لقد كان أسبوعا عسيرا للغاية على الموظفين في شيكاغو. وفي يوم الأربعاء الماضي 3 ديسمبر (كانون الأول)، قيل للعاملين في «ريبابلك ويندوز آند دورز» إن مصنعهم سيُغلق يوم الجمعة، 5 ديسمبر (كانون الأول)، وأنهم لن يحصلوا على أجر الـ60 يومًا الذي ينص عليه القانون الفيدرالي عند وقف المصنع نشاطه. احتل العاملون المصنع، وتعهدوا بالبقاء داخل المصنع حتى يدفع لهم صاحب العمل ـ الذي يبدو أنه اشترى مصنعًا أقل في الأجور بولاية إيوا ـ أو البنك المقرض للمصنع ـ بنك أوف أميركا ـ المبالغ مستحقة لهم. وبالأمس فقط، وافق البنك على ذلك.

وشيء جيد للمعتصمين. ويمكن أن يمثل بلاغوفيتش ارتداده إلى وقت أسوأ، ويمكن يكون زيل رئيسا من الجحيم، ولكن مع غياب مسؤولياتهم تجاه الأفراد الذين صوتوا أو عملوا لهم، فإنهم بذلك يرمزون لنفس اللامبالاة أو العقم الأخلاقي الذي حاربه العاملون بمصنع ريبابلك ـ وهي اللامبالاة التي أضعفت وأوقعت الكآبة في نفوس الأميركيين العاديين خلال عهد ريغان الطويل، وعلى وشك تنتهي في الوقت الحالي، كما نأمل. وينوي باراك أوباما بناء دولة أكثر عدلا، وسيساعده في هذه المهمة المزيد من اعتصامات العاملين، أو تحويل أمثال سام زيل بالبلاد إلى المحكمة.

* خدمة «واشنطن بوست» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»