«قندرتان» دخلتا التاريخ..!

TT

بداية، أعترف أن عنوان المقال من عنديات معلمي في الصف السادس الإبتدائي، أملاه عليَّ عبر مكالمة من بغداد، مذكراً بفضل المعلم على المتعلم بالقول المعروف. قال: «أنا في سرور، أريدك الكتابة تحت العنوان: ..»! قلت: «الثالث هو نعال أبي تحسين الشهير»! قال: «إنه نعال وليس قندرة. أتركه وأكتب عن قندرتي خرشوف ومنتظر»! وهنا حار البال في العاطفة التي ساوت ما بين مراسل الفضائية الزيدي وخرشوف زعيم القوى الكبرى في العالم!

ربما اختص العراقيون من دون الشعوب الأخرى، التي حكمها العثمانيون، بتسمية الحذاء قندرة، وقلبه من المذكر إلى المؤنث، فهو بالتركية: «كندورة». وقيل: دخلت القندرة العراق حديثاً، أي في القرن التاسع عشر، لتحل محل الخفاف والنعالات، أو اليمنيات، والمداسات في المناسبات. وأول ما دخل صنف القبغلي منها، من دون قياطين. أما أحذية النساء فتعرف بالسكاربينات (الحنفي، الحِرف والصناعات البغدادية)، وهي بضاعة دخيلة أيضاً.

يُكذب هذا التاريخ أرباب النظام السابق عندما صرحوا بأن العراقيين كانوا حفاة وهم ألبسوهم القنادر! ومن فضائل القندرة أنها وحدت أهل العراق: كورداً وعرباً وتركماناً وآشوريين، فالجميع يستخدمون المفردة. بعدها ظهرت فئة القندرچية إلى جانب النعلچية والخفافين من الصناع، ولهما سوق خاصة. ومن القنادر ظهرت حرف: الرگاعين، والصباغين. وعلى عادة البغداديين التلقيب بالمهنة، فليس أشهر من قارئ المقام رشيد القندرچي.

وحفظاً واعتزازاً بالقندرة احتذى الناس الكواليش فوقها لحمايتها من الوحل، وعندما يريدون مجلساً يخلعونها ويدخلون بالقنادر نظيفة مكملة للقيافة (نفسه). كان ذلك قبل تعبيد الطرقات. وسرعان ما أصبحت سلاحاً أبيض عند المشاجرات، وشتيمة لاذعة، مثل القول: «قندرة ابن القندرة»! ويسرع المتشاجرون إلى التضارب بالقنادر، أو النعالات، بقصد الإهانة. ومن لطائف النجفيين القول عند الغضب: «تتباسط بالمدس»! أي تتعارك بالنعالات! وكم لوحت الفتيات العراقيات بالقنادر أو النعالات بوجه المتحرشين من الشباب. أما المترفعون على هذا الأسلوب من العشائر فسلاحهم الماضي العقال لا النعال.

لكن، إغراقاً في المدح نظم أبو العتاهية في نعال الوزير: «نعلٌ بعثت بها لتلبسها.. تسعى بها قدمٌ إلى المجدِ.. لو كنت أقدر أن أشرَّكها.. خدي جعلت شراكها خدي»! وللملا عبود الكرخي في شأن غرور أحدهم: «روغن قندره تصرج ورنانة.. وذهب زنجيل جارك فوك خصيانه» (الشالجي، موسوعة الكنايات).

عود على بدء، القندرة الأولى التي دخلت التاريخ هي التي ضرب بها نيكيتا خروشوف طاولة الأمم المتحدة (1960)، وقد رواها شاهد عيان الدبلوماسي والمؤرخ نجدة فتحي صفوة. قال: «بينما كان مندوب الفيلبين سومولونغ يهاجم الاتحاد السوفيتي ويشجب سيطرته على دول أوروبا الشرقية، وقد سمعت خلفي دمدمة مفاجئة. فالتفت كما التفت غيري، فرأيت خروشوف يضرب بقبضته على المنضدة أمامه، أشبه بدب هائج. ثم زاد هياجه وأنحنى على الأرض فجأة فلم يدر أحد ما هو صانع، وإذا به يخلع حذاءه الأيمن ويلوح به في وجه مندوب الفيلبين، ثم أخذ يطرق المنضدة بكعب الحذاء» (حكايات دبلوماسية)! كان هذا التصرف واحدا مما واجهه به رفاقه عند تنحيته عن مناصبه كافة (1964).

لعلَّ حضر في ذهن الزيدي، عندما رمى بوش بقندرته، كل تراث القنادر والنعالات بين العراقيين، وما تعنيه من إهانة كبرى. لكنها لدى الأمريكي والغربي تفسر مثلما فسرتها وزيرة بوش: «انها الحرية»! ولا نختلف مع غضب الزيدي بما سببته السياسة الأمريكية بالعراق من مآسِ وانفلات لا مثيل له في التاريخ، وقد كتبتُ على صفحات هذه الجريدة تحت عنوان: «ياليت الغزو الأمريكي كان مغولياً»، للتذكير بحجم الدمار، وما حصل من مواجهات طائفية دامية.

إلا أن إحراج بوش بما حدث أمضى من رمي عشرات القنادر! وإذا دخلت قندرة خرشوف التاريخ كمهزلة، ومن قبلها مداس أبي القاسم الطنبوري كحكاية تراثية، فعل المستحيل للبراءة منه لكثرة ما سبب له من فواجع، لا أجد قندرة صحافينا ستذكر بمجد إلا لدى المشاعر الهائجة، التي كانت ساكتة سكوتاً مطبقاً في ما حصل للعراقيين على أيدي السابقين! فيا ليت اتحاد المحامين العرب تقدم للدفاع عن ضحية من الضحايا من قبل! ويا ليت اتحاد الأدباء العرب تبنى قصيدة أو بياناً في مظالم العراقيين، وها هو ما زال يعاند في الاعتراف بأدباء العراق، لأنهم لم يرموا الاحتلال بقنادرهم! أرى في إطلاق سراح الزيدي ستتحول زوبعة القندرة بالاتجاه المعاكس، إنها الحرية!

على أية حال، أكون لبيت لمعلمي رغبته، وعذري في عدم مشاركته السرور بما ذكره الميداني في مجمعه: «يزال الناس بخير ما تباينوا، فإذا تساووا هلكوا»! أعنيها في الرأي لا في الرزق..!

[email protected]