أي عراق هذا بعد خمس سنوات من الاحتلال؟

TT

اذا كان خبر محاولة الانقلاب العسكري في العراق صحيحاً او غير صحيح، الا انه كشف عن صراعات داخلية قد تزداد قريباً بسبب الازمة المالية والاقتصادية التي تعصف بالعالم والتي لن ينجو العراق من تأثيراتها.

يبدو اعضاء الحكومة العراقية ونواب البرلمان العراقي كمن يدورون حول انفسهم غير متنبهين لنيران انهيار اسعار النفط التي ستكشف ان المشاكل التي يعاني منها العراق ليس الغزو وحده، او الارهاب، انما انشغال حكومة نوري المالكي بتثبيت سلطاتها عبر تكميم افواه المناوئين لها، او القضاء عليهم. ارجأ البرلمان العراقي التصويت يوم الاثنين الماضي على القراءة الثانية لمشروع قانون انسحاب القوات الاجنبية، باستثناء الاميركية، من العراق بعد انتهاء التفويض الذي منحتها اياه الامم المتحدة وموعده نهاية العام الحالي.

التحرك ليس بريئاً، ويحمل بصمات المالكي. فرئيس الوزراء العراقي يريد الانتقام من القوات البريطانية لأنها خذلته، حسب رأيه، فهو كان يريدها ان تقتلع «جيش المهدي» (منافسه اللدود) من البصرة قبل ان تنسحب في الصيف الى قاعدة مطار البصرة، لكن هذه انسحبت وتركت المدينة لانصار مقتدى الصدر، مما اضطر المالكي الى شن هجوم قام به الجيش العراقي مدعوماً بقوات اميركية. هو يريد اهانة البريطانيين، وبينما عقد العراق اتفاقية امنية مع الولايات المتحدة تتيح لقواتها العسكرية البقاء حتى عام 2011، اي توفير الغطاء القانوني اللازم لبقاء القوات الاميركية في العراق الى ما بعد الحادي والثلاثين من هذا الشهر، يصر المالكي على عدم اشعار بريطانيا بالراحة القانونية التي تريدها لقواتها رغم ان غوردن براون رئيس الوزراء البريطاني اعلن في بغداد الاسبوع قبل الماضي، انه توصل مع الحكومة العراقية لبقاء قواته في العراق حتى شهر مايو (ايار) المقبل، اي بعد انتهاء التفويض الاممي.

بالطبع لن يمر غزو العراق لاحقاً من دون محاسبة. لكن المالكي يتصرف وكأن دونالد رامسفيلد وزير الدفاع الاميركي لا يزال الآمر الناهي، ومعه ديك تشيني نائب الرئيس. والملاحظ ان في العراق هروباً الى الامام من الازمة المالية الأخطر التي ستواجهه. رغم ان مجلس الامن صوت بالاجماع يوم الاثنين الماضي على حماية ممتلكات واموال عراقية من مطالبة لها متوقعة من قبل افراد وشركات وحكومات. وقال وزير الخارجية العراقي هوشيار زيباري بعد صدور القانون الجديد، انه من دون الحماية القانونية للممتلكات والاموال العراقية، لكان استقرار الحكومة العراقية قد تعرض لاهتزاز خطير.

وكانت الدول الدائنة في نادي باريس قد شطبت يوم الاثنين الماضي ايضا، نصف الديون المتبقية على العراق والبالغة 15.6 مليار دولار.

كل هذه الحوافز الخارجية لا تلغي ان الحكومة العراقية، وبسبب انخفاض اسعار النفط، مضطرة الى تقليص ميزانيتها لعام 2009. وقد اعترف نائب رئيس الوزراء برهم صالح اخيراً، بأن انخفاض سعر النفط سيؤثر كثيراً على الاقتصاد العراقي.

المعروف ان تسعين في المائة من ميزانية الحكومة العراقية يعتمد على عائدات النفط. وخارج دفع رواتب العسكريين والشرطة ورجال الاجهزة الامنية، لم تُقدم الحكومة العراقية على مشاريع اقتصادية كبرى.

لا تعاني الحكومة العراقية فقط كون سعر النفط انخفض من 147 دولارا للبرميل الواحد ليصل الى حوالي اربعين دولارا، بل ايضاً لأن تصدير النفط العراقي انخفض بنسبة 25%. والمشكلة، ان ميزانية عام 2009 وُضعت على افتراض ان العراق يُصدر مليوني برميل يومياً (يصدر 1.65 مليون برميل حاليا)، بسعر لا يقل عن الثمانين دولاراً للبرميل.

وفر ارتفاع سعر النفط عائدات غير متوقعة للعراق. فهو بين عامي 2005 و2007 سجل فائضا في الميزانية يصل الى 29 مليار دولار، وفي شهر أغسطس (آب) الماضي، قبل انفجار الازمة المالية والاقتصادية، اصدر مكتب المحاسبة التابع للحكومة الاميركية مذكرة توقع فيها ان يبلغ الفائض في ميزانية العراق عام 2008، خمسين مليار دولار.

ويقول جيمس كوغان الخبير المالي المتابع للاقتصاد العراقي، ان كل التوقعات كانت غير دقيقة، ففائض هذا العام الذي بلغ 22 مليار دولار، صُرف على ميزانية اضافية خصصت مبلغ 14.3 مليار دولار لاعمال قدمها الاحتلال الاميركي، والباقي صُرف على الاقرباء وجهاز الدولة الفاسد.

وزير المالية العراقي باقر جبر الزبيدي لمح الى احتمال ان يطلب العراق قروضاً دولية لتمويل مصاريف الحكومة، في الوقت الذي أجلت فيه الحكومة زيادة الرواتب وطلبت من الوزارات تخفيض مصاريفها.

تشير التقديرات الى ان اعادة العراق الى وضع الدولة التي كان عليها، قبل ان تمزقه حربان وعقوبات دولية، تحتاج الى 400 مليار دولار لاعادة وتحديث البنية التحتية.

ان اعادة البناء التي بدأت في ظل الاحتلال الاميركي فشلت فشلاً ذريعاً. وفي مسودة تقرير وضعته لجنة في الكونغرس الاميركي جاء ان مبلغ 117 مليار دولار صرفته المؤسسة العسكرية الاميركية والحكومة العراقية منذ عام 2003، تبذر في مشاريع غير منتجة، او اختفى بسبب الفساد وسوء الادارة.

لا توجد مقاطعة في العراق، بما فيها كردستان، توفر الكهرباء بشكل متواصل للسكان. ولا يتجاوز المعدل 14 ساعة ولا يقل عن ثماني ساعات في مدن مثل بغداد او المقاطعات الجنوبية. ويؤدي نظام صرف المجاري الى امراض مستعصية. فمدينة مثل بغداد بنيت لتستوعب 750 الف نسمة، وليس خمسة ملايين نسمة يتنافسون حالياً فيها حتى على الاوكسجين. اقذار البواليع تتدفق في الشوارع، صار التخلص من الاقذار حلم عراقيي بغداد. هم يخافون إن ماتوا ان يدفنوا فيها، كما قال احدهم. واصبح جمع القمامة مهملاً، فهي تتكوم لأيام واسابيع.

وتكمن المأساة الكبرى في نظام المياه، واعترفت وزارة الصحة العراقية ان ثلث كمية المياه التي يستهلكها سكان بغداد، لا تناسب الاستهلاك البشري، وكأن بغداد سائرة على طريق زيمبابوي. وعلى مستوى العراق كله، فان نسبة 17% من المياه ملوثة. وابلغ احد مسؤولي وزارة المياه مكتب الامم المتحدة في بغداد «ان الانابيب التي تنقل مياه الشفة تجاوز عمرها الثلاثين عاماً، والسبب الرئيسي للتلوث هو ان مياه الشفة تمتزج بمياه المجارير».

اما النظام الصحي فانه لا يعمل بسبب النقص في تأهيل المعدات او عدم توفر الاطباء والممرضين. كذلك حال الاهتمام بالامراض العقلية. والعام الماضي بعد مرور اربع سنوات على الغزو الاميركي، كشف احصاء بأن سبعين في المائة من طلاب المدارس الابتدائية اظهروا علامات من الصدمات النفسية، مثل تبليل أسرتهم، الثأثأة، البكم المقصود، عدم الاهتمام بالدراسة او العدائية في التصرف.

مع اقتراب الغزو من سنته السادسة، فان البطالة في العراق وصلت الى 38.1%، وتصر الحكومة على اعطاء نسبة رسمية لا تتجاوز 17.6%. اكثر من 70% من العائلات تعيش على اقل من 210 دولارات في الشهر، واذا عرفنا ان كل عائلة تتكون من معدل يتراوح ما بين 6 و10 افراد، نصل الى ان اكثر من 17 مليون عراقي يعيش على دولار واحد يومياً.

وهناك ما يقرب من 6.2 مليون عراقي يعيشون على «اعاشات» تقدمها الدولة تجنباً للمجاعة، وهذه نقصت كثيراً هذا العام، ويحق للعائلات «البائسة جداً» ان يحصل كل فرد منها شهرياً على تسعة كيلوغرامات من الطحين، وثلاثة كيلوغرامات من الارز، وكيلوغرامين من السكر، وليتر واحد من زيت القلي ومائتي وخمسين غراماً من بودرة الحليب.

ان كل هذه المآسي التي سببها الغزو الاميركي للعراق، اضافة الى عمليات الارهاب والتدخل الايراني الذي اغتال الكفاءات العلمية والعسكرية العراقية او هجّرها ـ تحاول اليوم الحكومة العراقية استعادتهم ـ جعلت حياة العراقيين مظلمة، وصار متوسط عمر المرأة 59 عاماً، والرجل 57 عاماً، وازدادت نسبة موت الاطفال عند الولادة الى 120 من اصل ألف مولود، ثم ان اكثر من ربع الاطفال يعانون من ضمور في النمو بسبب سوء التغذية.

اي مصير ينتظر العراقيين، اذا تقلصت ميزانية الحكومة نظراً لانخفاض اسعار النفط، العماد الاساسي، خصوصاً اذا كانت هذه الحكومة ستصرف على الانتخابات التي ستجرى في نهاية الشهر المقبل؟ والاكراد سيتحركون للدفاع عن «نفطهم»، بعد ان خف الطلب وانخفض السعر. في المناطق الشمالية تعرض المسيحيون للتهجير، والايزيديون للهجمات. وستعود كركوك لتمثل مفترق طرق استراتيجيا، فيدّعي الاكراد انتماءها لهم وتدّعي الحكومة العراقية انها جزء من العراق.

نوري المالكي سيزور طهران الاسبوع المقبل، فهل ستبدأ ايران الآن تحريك خيوط المأساة العراقية كما تفعل مع قطاع غزة؟ وهل تقترب اللعبة الايرانية من لبنان بعدما تنتهي فترة الاعياد ويقترب موعد الانتخابات؟