المعاناة في الكونغو

TT

ينطوي موقع هذه المدينة على قدر هائل من التناقضات، حيث تقع على امتداد بحيرة هادئة مترامية الأطراف، ولكن يسيطر على المنطقة بأكملها بركان يتدفق منه البخار بصورة يومية، ويبدو متوهجاً بحممه حمراء اللون في المساء. وعلاوة على ذلك، فإنها مدينة تعيش في ظلال أحداث العنف المفاجئة.

أثناء قيادة السيارة شمالا انطلاقا من غوما، يمر المرء بحقول واسعة من الحمم البركانية التي يغلب عليها اللون الأسود ويجد المرء صعوبة في السير عليها نظراً لتحطمها وانقسامها إلى شظايا حادة. ولكن بعد سبعة أميال أخرى على الطريق، يتغير لون الزي الرسمي للجنود من الأخضر الخالص المميز لجيش الكونغو إلى ملابس التمويه التي تميز قوات المؤتمر الوطني للدفاع عن الشعب، وهم المتمردون بزعامة لوران نكوندا. إلا أنه بالنسبة للمدنيين، عادة ما لا يتسم لون الزي الرسمي بأهمية كبيرة ـ فكل المجموعات المسلحة تتورط في أعمال نهب واغتصاب.

وبعد أقل من ميل من الحدود، يقودك منعطف على اليسار إلى لتصل إلى مخيم «كيباتي 1»، حيث يوجد ما يزيد على 6,000 من الرجال والنساء والأطفال المشردين جراء أعمال القتال الدائرة في الجوار. وتعكس الحياة داخل هذه المخيمات كافة المشكلات التي تعانيها الكونغو بوجه عام من أمراض جلدية وداء الديدان الطفيلية والإسهال وأمراض الجهاز التنفسي.

وفي المخيم، شاهدت فتاة في سن المراهقة ترتدي معطفاً ثقيلاً بسبب البرد الذي تشعر جراء إصابتها بالملاريا. ورأيت طفلاً في الثامنة من عمره يدعى غلوري يبتسم للكاميرا، رغم سخونة جسده بسبب الحمى.

عندما تتحرك الجيوش المختلفة، تهرب مدن بكاملها، ما يسبب ارتفاعا حادا في العنف الجنسي وسوء التغذية. وتجتمع هذه المعاناة الفردية لتكون إحصائيات مروعة، فمن المحتمل أن يبلغ عدد حالات الوفاة ذات الصلة بالحرب أربعة ملايين على مدار العقد الماضي، وربما يصل العدد إلى خمس ملايين. ونعرف أن الأحداث تقترب من مستوى عملية الإبادة الجماعية، عندما يقاس هامش الخطأ بالملايين.

وتظهر في المعركة التي اندلعت في أواخر أكتوبر (تشرين الأول) وبداية نوفمبر (تشرين الثاني) جميع مظاهر التحدي، وقد خططت قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة لاستغلال فرصة وقف إطلاق النار للاندساس بين فريقي القتال. ولكن انتهك الجيش الكونغولي وقف إطلاق النار على الفور ليهاجم قوات المتمردين. وفي المعركة الناجمة عن ذلك، هُزمت القوات الكونغولية وهربت إلى مدينة غوما، حيث أخذت تقتل مواطنيها وتنهب كل ما في المدينة وما وراءها. بل، أطلقت بعض وحدات الجيش الكونغولي النار على قوات حفظ السلام ذاتها. وكان رد فعل قوات الأمم المتحدة مرتبكا وغير قوي إلى حد كبير، ما أدى إلى خسارة بلدة روتشورو الاستراتيجية، التي كانت قوات حفظ السلام قد تعهدت بالدفاع عنها. وفي قرية كيوانجا التي استولى عليها المتمردون، كان رد فعل المتمردين المنتصرين على المقاومة التي وجدوها، هو مذبحة لأكثر من 50 شخصا، وكان القتل بالمناجل والهراوات.

وظلت بلدة غوما. ولكن جيش المتمردين الآن يقوي من مكاسبه، التي من الممكن أن تتسع بسهولة في المعارك القادمة. ويصعد نجم نكوندا، زعيم متمردي التوتسي، الذي يوصف هنا أحيانا بـ«صاحب الكاريزما» و«الشعبي»، وأحيانا أخرى بـأنه «قاس»، و«سفاح». وهو لا يجد سببا للتفاوض من أجل تسوية سياسية، بينما يمكنه أن يحلم بالسيطرة على المنطقة بأسرها، أو حتى يطيح الحكومة الكونغولية الواهنة تحت رئاسة جوزيف كابيلا.

ويعد الأمن في شرق الكونغو شرطا أساسيا لإحراز تقدم سياسي. وسوف يستمر نكوندا في استخدام القوة، حتى ترده قوة أخرى فعالة. والجيش الكونغولي غير قادر على هزيمته. وبينما يقف وجود قوات حفظ سلام تابعة للأمم المتحدة وراء عدم الاستيلاء على غوما، إلا أنها لا تتمتع بالإرادة السياسية والقدرات التي تؤهلها لاحتواء نكوندا. وهي تفتقد إلى قوات سريعة الاستجابة وإمكانيات القتال في الليل.

وهذا يترك حلا بديلا واحدا، وهو قوة عسكرية أوروبية قوية تدعمها الولايات المتحدة، ويمكنها تحقيق الاستقرار، وتعطي قوات حفظ السلام مساحة، وتضع حدا لمطامع نكوندا. ولكن من المخزي أن عارضت كل من بريطانيا وألمانيا إرسال هذا النوع من القوات. (ولكن الأمر مخجل بالنسبة لألمانيا على وجه التحديد، لأنه من المفترض أن تكون أكثر دولة تشعر بالغضب بسبب العنف الجماعي).

ومن الممكن أن يساعد مثل ذلك التدخل على بذل جهود كثيرة لبناء الثقة. وربما تخفف المفاوضات المباشرة بين كابيلا والرئيس الرواندي بول كاغام من حدة التوترات بيت قبيلتي التوتسي والهوتو في شرق الكونغو، وينتج عنها بذل المزيد من الجهود الجادة ضد القوات الديمقراطية لتحرير رواندا، وهي جماعة وحشية من المتمردين أسسها مرتكبو مذبحة رواندا من قبيلة الهوتو. ويمكن أن يحاول كابيلا أن يشرك نكوندا المتواضع في ترتيبات سياسية مستقبلية، إذا استطاع الرئيس الشاب غير المستقر القيام بذلك العمل الشهم.

وتبدو تلك الخطوات ضرورية، ولكنها غير ممكنة. ويبدو أن قليل من الناس يهتمون بما فيه الكفاية بالمعاناة الكونغولية التي يجدها السكان في البحيرة البعيدة خلف سحب بركان نييراجونجو ونيرانه.

ولكن يقدم الكونغوليون أنفسهم الأمل، ففي حقول الحمم السوداء، حيث لا يمكن للأرنب أن يحفر جحرا ليختبئ أو لنبات القراص أن ينمو، يبني الناس سياج حولهم من أحجار الخفاف، ومنازل من القصب والحجارة. لقد اختار البشر أن يبنوا حتى ولو على أساسات الكارثة.

* خدمة «واشنطن بوست»

ـ (خاص بـ«الشرق الأوسط»)