عام الانهيارات اللذيذة

TT

نكاية بصموئيل هنتنغتون، صاحب نظرية «صدام الحضارات»، التي كادت تُعلن ـ لولا العيب والحياء ـ شعاراً مفضلاً لولايتي بوش الملعونتين، فاز «الهجين» باراك حسين أوباما برئاسة الولايات المتحدة، ليثبت (وهو المعجون بثلاث ثقافات: غربية، أفريقية وإسلامية) ان انصهار الحضارات المتباينة ممكن، لا بل وتلاقحها محبب لقلوب الناخبين الأميركيين حين يعودون إلى السوية النفسية.

صحيح ان «الحرب على الإرهاب» ما زالت عنواناً، لكنها فقدت بريقها واستبدلت بحرب من نوع آخر على الفقر والبطالة اللذين تسببت فيهما أزمة الائتمان وهستيريا القتال. بهذا المعنى يشكل وصول أوباما هزيمة نكراء لأصحاب الفكر المتقوقع الذي لا يرى من نتيجة للاختلاف سوى حتمية صدامية ودموية أيضاً. وهذا من متطلبات مرحلة أنهك فيها العالم كله، وأميركا في مقدمته، من جنون المناكدة والبغضاء.

ومن حسن الحظ ان فوكاياما هو الآخر الذي اعتبر انتصار القيم الرأسمالية على الشيوعية حقق ضربة قاضية لا قيامة بعدها، وصدقه كثيرون، كذبت مقولته هذه السنة. فالنظام الليبرالي المتوحش يتداعى ويهب أصحابه لتزويده ببعض الضوابط والكوابح، فيما روسيا تنهض من سباتها، وتصل بأسطولها الحربي إلى مشارف أميركا وتقيم مناوراتها مع فنزويلا. ومن المفارقات المضحكة ان نسمع الرئيس الفنزويلي هوغو شافيز يقول مهدداً بأن «هذه المناورات هي تحذير للامبراطورية الأميركية. وروسيا هذه التي ظن فوكوياما أنها كتمت وإلى الأبد، ها هي تتجرأ وتزود لبنان بطائرات ميغ 29 رغم أنف أميركا وإسرائيل معاً ضاربة عرض الحائط بالحرص الأميركي ـ الإسرائيلي الشديد على إبقاء الجيش اللبناني فرقة كشفية شبه عزلاء، إلا من سلاح يصلح للاستخدام الداخلي. لا بل ان روسيا تعد لبنان بأكثر من ذلك، وهي على استعداد لأن تزوده بصواريخ دفاعية، وهذا يشكل مفاجأة لا يستهان بأبعادها.

نظريات متسرعة من نوع ما ابتكرته قريحتا هنتنغتون وفوكوياما، فبركت على طريقة سندويتشات الهامبرغر ووزعت على الجماهير لالتهامها، تصح فيها تسمية «الفاست فلسفة» التي تولد وتدفن في ظرف سنوات؛ فهي تفتقد لجذور تضرب عميقاً في علوم الإنسانيات، وتبقى لمن يقرأها ويحلل المرتكزات التي قامت عليها مجرد مقولات عجلى، تنبت من رغبات أصحابها وأهوائهم. غير انها نظريات شغلت الدنيا على مدى السنوات الماضية حتى رأى البعض في مقولة هنتنغتون نبوءة قطعت الشك باليقين. فها هم المسلمون الذين توقع أستاذ هارفرد الكبير، بأنهم سيصبحون أعداء الغرب بعد أفول الاتحاد السوفيتي يأتون بالفعل إلى قلب نيويورك ليدمروا ويرتكبوا مجزرتهم البربرية. فأي برهان أقوى وأسطع.

وصل المطبِّلون لنظرية العراك والصراع مع نهاية عام 2008 إلى طريق مسدود، وتراجع قبل ذلك فوكوياما صاحب نظرية «نهاية التاريخ» عن بعض آرائه معترفاً بخطأ رؤاه. واضطرت الولايات المتحدة، المركز المالي للكوكب أن تستنجد بالعدو قبل الصديق لإنقاذ صناديقها الفارغة، وجيوب مواطنيها الخاوية، مهددة بأن المعبد سيسقط، إن هو انهار على رأس الجميع ولن ينجوَ أحد. وثمة إشارات من واشنطن توحي بأن أميركا قد تتنازل إلى حدود لم يتصورها أحد. فبحسب مسؤولة في الخارجية الأميركية، فإن العالم لن يجد صعوبة في التعايش مع إيران نووية، ما دام قد تعايش قبلاً مع دولة إسلامية نووية مثل باكستان، رغم كل ما يتهددها من اضطراب وإرهاب وتطرف. وربما ان المرأة لا تجتهد بقدر ما تشي بنوايا ما تزال طي الكتمان، تؤكدها إشارات متعددة صدرت عن واشنطن. وسنرى في العام المقبل ونسمع، تحت وطأة الضربات الاقتصادية، ما لم يكن في الحسبان، والمفاجآت قد تتجاوز التوقعات. فبمقدور أميركا ان تركّب أذن الجرّة من الناحية التي تناسبها، كما يقول المثل اللبناني. وسنوات إعادة الحسابات ومراجعة الخطط قد تكون عسيرة على البعض، ومتنفساً للبعض الآخر، لكنها ستشكل مفصلاً تاريخياً، تتموضع على مفترقه الأمم تبعاً لمقدراتها وما بنته سواعدها في السنوات الماضية.

على هذا المفترق الصعب، لا غرابة في أن يصعد البترول إلى 147 دولاراً ويهبط إلى 34 دولاراً في غضون أشهر، أو ان تختفي شركات عملاقة وتغرق بنوك كانت إمبراطوريات مالية. والعام المقبل زلزاليّ بامتياز على ما يبدو، وإرهاصاته بدأت بالظهور.

وليس غريباً على الإطلاق أن ينشغل الإعلام شرقاً وغرباً بحذاء يُقذفُ في وجه جورج بوش قبل أن يودع عهده. فالرجل بات يشكل رمزاً لمرحلة تاريخية مفصلية في حياة الولايات المتحدة لا تقل اهمية عن مرحلة البريسترويكا التي ارتبطت باسم غورباتشوف. وإن كان العرب قد رأوا في حذاء منتظر الزيدي ثأراً لكرامتهم المهدورة، فإن الأميركيين رأوا فيه انتقاماً من رجل أوصلهم إلى العوز. والنكتة التي ذكرتها «نيويورك تايمز» ذات دلالة عالية، إذ اقترح أحدهم بعد أن سمع بنبأ الخليجي الذي يريد ان يشتري حذاء منتظر بعشرة ملايين دولار، ان تحل أزمة الائتمان بوضع بوش على منصة، وأن يرشق بأحذية تباع في مزاد علني. والنكات الشعبية تكون أكثر دلالة من الخطابات السياسية بكثير عند من يعرفون قراءتها وفهم مدلولاتها.

وفي أي حال، فأن يُحدث استخدام الحذاء بدل المتفجرات للتعبير عن الغضب في وجه بوش، كل هذا الدوي والأثر، لهو دلالة على ان المزاج العام بات ميالاً للحوار، إذ أن للحذاء لغته ورمزيته، وهذا ما ثبت بتجربة حذاء منتظر. فالاقتتال بالأحذية أقل أذى ألف مرة من التراشق بالديناميت، وهذا لا يحتاج لخمسة عشر عاماً من القتل اليومي، لإثبات صحته، وهي المدة التي احتاجتها أميركا للتأكد أن هنتنغتون كان مهرطقاً من الطراز الأول.

[email protected]