منطق المواطنة الغائب عن لبنان

TT

يواصل اللبنانيون تجربة «الحوار الوطني » وهم أحوج الناس الى وسيط يتولى، بادئ ذي بدء، توحيد المعاني المتناقضة لمفرداتهم «الوطنية» قبل توحيد الرؤى المتضاربة لاستراتيجياتهم الدفاعية، ومن ثم الخروج منها بقاسم مشترك يبرر دعوتهم، يوما ما، الى الإجماع على الاساسيات التي من دونها لا تقوم الأوطان.

ولكن، قبل الاتفاق على الوطن الواحد بات اللبنانيون مدعوين إلى الاتفاق على منطق المواطنة (Citizenship) في الدولة العصرية الذي لخصه المفكر الفرنسي جان جاك روسو، قبل قرنين ونصف القرن، بمعادلة تقوم على «تنازل» الأفراد عن «جزء» من حرياتهم وحقوقهم لصالح مجتمعهم، مقابل تعهد هذا المجتمع بصيانة حقوقهم وحمايتهم.

باختصار، المواطنة في أي بلد يولد فيه الانسان مجرد «عقد اجتماعي» بين هذا الانسان ومجتمعه، يحدد بوضوح حقوق وواجبات الجانبين.

لو اعتمد أقطاب الحوار اللبناني تعريف روسو للمواطنة في مقاربتهم للاستراتيجية الدفاعية لبلدهم لاكتشفوا تقصيرا مزدوجا في مفهوم المجتمع ومفهوم الأفراد معا للمواطنة المطلوبة.. فلا المجتمع ، ممثلا بالدولة، استطاع حمايتهم من الأخطار المحدقة بهم ـ داخلية كانت ام خارجية ـ ولا اللبنانيون أظهروا حماسا يذكر، كأفراد وجماعات، «للتنازل» عن جزء من حقوقهم لتسهيل دور الدولة في حمايتهم.. فكانت الميليشيات البديل للدولة وكان منطق المواطنة الغائب الاكبر عن معادلة المجتمع اللبناني .

لربما جاءت حصيلة طاولات الحوار اللبنانية أكثر واقعية لو قدّم المتحاورون مفهوم العقد الاجتماعي في علاقتهم ببلدهم، وببعضهم البعض، على «الرومانسية القومية» والفروسية الجهادية.

لو فعلوا لسهل عليهم تقبل معادلة روسو الواقعية للمواطنة وربما اعتمادها قاسما مشتركا بينهم.

ولكن اللافت أن بعض أقطاب الحوار يفضلون، عوض السير على خطى روسو، السير على خطى إخوانهم الفلسطينيين: تصنيف اللبنانيين بين «مقاومين» و«متعاونين» وحشر دولتهم بين «سلطة» غير قادرة، بمفردها، على حسم طبيعة الخيار الدفاعي الأمثل للبنان و«قطاع» مستقل في خياراته الاستراتيجية وفي سياسته «الدفاعية».

بعد إجماع اللبنانيين في اتفاق الطائف على نهائية الكيان اللبناني وعروبته، وبعد اعتراف سورية النظري ثم الدبلوماسي بهذا التعريف، لم يعد جائزا ان تبقى المواطنة في لبنان عقدة بعض مواطنيه ـ كما كانت عليه في سنوات الاستقلال الأولى ـ وعائقا في وجه تحديد «مصالح لبنان العليا» بوضوح (الامر الذي تجنبه برشاقة بيان مؤتمر الحوار الوطني).

أن يكون لبنان قد ولد سفاحا من رحم اتفاق سايكس ـ بيكو.. واقع لا ينكره أحد.

أما أن يستمر أبناؤه، وحدهم، في تحمل وزر خطيئة يشاركهم فيها مواطنو كل دول التركة الاستعمارية العثمانية، فأمر يدعو الى التساؤل عما إذا كان مفهوم المواطنة الواحدة محرما على اللبنانيين دون غيرهم من عرب المشرق، ولأسباب لا يمكن تبرئة بعض اللبنانيين منها .

أقل اللبنانيين اهتماما بالشأن السياسي في بلده بات مقتنعا باستحالة توصل أقطاب الحوار الى «صفقة دفاعية» طالما بقي بلدهم منقسما على نفسه، وطالما يصب هذا الانقسام في مصلحة القوى الاقليمية والدولية الفاعلة على الساحة اللبنانية، وطالما تواصل هذه القوى توظيفه في خدمة مصالحها.

لا جدال اليوم في أن تعزيز دور الدولة كحامية لمصالح الافراد وحقوقهم يشكل البداية العملية لإصلاح الخلل اللاحق في معادلة المواطنة اللبنانية . مع ذلك يصعب توقع إقدام أي دولة متقدمة عسكريا على تجاوز الواقع الانقسامي للبنان و«المغامرة» بتسليحه، نوعا وكما، بما يكفل للدولة ممارسة دورها في هذه المعادلة، الامر الذي يوحي بأن عرض روسيا الاتحادية لهبة من عشر طائرات «ميغ 29» من جيل العام 1989، هو أقصى ما يمكن ان تقدمه للبنان أي دولة قادرة على تسليحه.. قبل ان يلتقي اللبنانيون على منطق واضح للمواطنة يمهد الطريق «لإيجاد خلاصات وقواسم مشتركة بين مختلف الطروحات» الدفاعية، حسب تمني البيان الختامي لمؤتمر الحوار الثالث.