مسؤولية السياسي.. ومسؤولية المثقَّف

TT

لفتت انتباهي في الأسبوع الماضي وهذا الأُسبوع ثلاثةُ أحداثٍ دارت كلّها في المحيط العربي، وأبرزت بمجموعها عنواناً لا تُخطئُهُ العين، هو موضوع «المسؤولية» وكيف تتجلَّى لدى السياسي، ولدى المثقَّف في عالمنا العربي. الحدثُ الأول: الاضطراب المتجدد والمتصاعد في الصومال المعذَّب على مشارف جلاء القوات الإثيوبية من ذلك البلد. والحدث الثاني الجدال المندلع بين الجزائر والمغرب حول الصحراء وحول الحدود، وظهور الظروف البائسة لمئات الآلاف من الصحراويين الواقعين بين نارين بل عدة نيران. والحدث الثالث انتهاء التهدئة بين حماس وإسرائيل في قطاع غزّة، وأفكار ومبادرات حماس بعد الإعلان عن العودة للنضال لفكّ الحصار عن قطاع غزّة، ولالتماس منافذ أُخرى للاشتباك مع المحيط العربي.

في الحدث الصومالي، ومع اعتزام الإثيوبيين الانسحاب بعد أن فشلوا في مساعدة الحكومة المؤقتة على ضبط الوضع؛ ظهر أنّ الذين يبحثون عن موطئ قدمٍ لهم هناك لملء الفراغ كما يقولون هم أربعةُ فُرقاء، وليس فريقين، كما كان يُعتقد. فريق الحكومة المؤقتة أو الانتقالية، وفريق شباب المجاهدين الذين ظهروا في الشهور الأخيرة، وفريق المحاكم الإسلامية، الذين اعتقدنا أنّ الإثيوبيين قضَوا عليهم. وأخيراً فريق القراصنة، الذين يقولون الآن إنّ نجاحاتهم تدفعُهُم لمحاولة المشاركة والإسهام في حلّ المُشكل الوطني! والطريف أنه في مُواجهة هذا الواقع الجديد بعض الشيء، ما تحدث أيٌّ من الفُرقاء عن مُعاناة الناس الذين تعيش ملايينهم على الفُتات القليل الذي يأتي من المساعدات الغذائية للمنظمات الدولية والإنسانية. بل إنَّ كلَّ فريقٍ يتحدث عن المناطق التي يسيطر عليها، وأنّ ذلك يعطيه الحقّ في "قيادة" نعم قيادة الحلّ الوطني الشامل! أمّا الصوماليون الجائعون والمتنقلون من مكانٍ إلى مكانٍ هرباً من القذائف وهرباً من نهب القليل الذي بقي لأطفالهم؛ فما تحدث باسمهم غير مسؤولٍ في إحدى المنظمات الإنسانية، والذي ذَكر أنه مستعدٌّ لإعطاء المسلَّحين نصيباً من الأغذية، وكلٌّ في المنطقة التي يسيطر عليها، لكنْ بشرطين: أنّ يضمنوا أَمْنَ طُرُق الغذاء، وأن لا ينهبوا مواطنيهم أو يعتدوا عليهم في التجمعات التي نُظِّمت لتلقّي المُساعدات! أمّا رئيس الجمهورية المؤقّت فقد شكا من رئيس وزرائه وحاول إقالته، إذ اعتبره أهمَّ عوامل الأزمة. وأما زعيم المجاهدين الشباب فقد قال إنّ همَّه الأَوحد مكافحة التدخل الأجنبي؛ في حين ما ذكر رئيس المحاكم أو المتحدث باسمها هدفاً لنضاله غير تطبيق الشريعة. بينما يريد القراصنة الآن السيطرة على منطقة واتخاذها نموذجاً لتجربتهم في «نشر الرخاء»، نعَم نشْر الرخاء، الذي يعُينُ على الوحدة الوطنية من جديد. واندلع جدلٌ إعلاميٌّ بين الجزائر والمغرب على خلفية مُصادرة الجزائريين ـ لا أعرفُ متى وأين ـ لممتلكات مئاتٍ من المغاربة، والمغرب يريد استعادة حقوق مواطنيه؛ في حين أصدرت جهاتٌ إنسانيةٌ دوليةٌ تقريراً عن أمراض نقص التغذية، والمنتشرة بين اللاجئين من ساكني الخيام في الصحراء؛ في حين ما يزال هذا الطرف أو ذاك، وبعد أكثر من ثلاثين عاماً، مهتماً بالتبعية السياسية لهذه العشيرة أو تلك.

وآخِر طرائف حماس المأساوية أنها تطلب الآن الوساطة التركية ـ بدلاً من الوساطة المصرية ـ بينها وبين إسرائيل، وهمُّها أن تبقى هي المسيطرة، أمّا مشكلات الحصار، فهي للاستخدام السياسي ومحاولة الحصول على شرعيةٍ دوليةٍ، بغضّ النظر عن أي أمرٍ آخر. ومن ضمن ذلك اجتراح الوسائل الكفيلة بالتخفيف من مُعاناة الناس.

إنّ المسألة الأساسية في الكيانات والأحزاب السياسية كما قال ماكس فيبر خلال مُعاناة الأُمّة الألمانية في الحرب العالمية، هي في الجوهر: ما معنى السياسي، وما هي وظيفتُهُ أو مسؤوليته؟ ويجيب السوسيولوجي الكبير إجابةً تُشبه الفعل ما قاله الفقيه الحنبلي ابن عقيل قبل حوالي الألف عام. ابن عقيل قال إنَّ السياسة هي تدبير شؤون العباد بما يؤدّي إلى أن تكونَ أمورهم أقرب من الصلاح، وأبعد عن الفساد. أمّا فيبر فقال: إنّ مهمة السياسي القيادي المحترف تتمثل في أن يوازن بين الإمكانيات والقُدُرات بحيث يتحقق الأمران: الأمن والاستقرار. وهي سمَّى ذلك السياسة العقلانية. ويتابع الرجل قائلاً إنّ الصراع على السلطة بين السياسيين لا ينبغي أن يكونَ على أيّ البرامج أفضل؟ بل أيٌّ البرامج أكثر إمكاناً، وأكثر صَوناً لحياة الناس ومعيشتهم. وبهذا المقياس، ولأنه كان يتحدث في زمن الحرب، فقد لاحظ أنّ الجنرال لودندورف رئيس أركان حرب الجيش الألماني، كان أكثر حرصاً على حياة المدينيين والريفيين الألمان والفرنسيين، من غالبية القادة السياسيين الألمان والفرنسيين! وكما سبق القول؛ فإنه في حالات الصومال والنزاع الجزائري/ المغربي على الصحراء، وإدارة حماس لشؤون غزّة، ما اعتبر أيٌّ من الأطراف المتنازعين أنه يتحمل مسؤوليةً ولو ضئيلةً في بؤْس السكان المدنيين الذين ينالُ منهم الجوع والقتل والتشريد أكثر مما ينالٌ من المقاتلين الأشاوس. وبوضوحٍ أكبر: ماذا يُهمُّ الصحراويَّ الجائع والمشرَّد عن تتبعُ تلك المساحات الرملية الشاسعة التي يضيعُ فيها، ما دام لم يعرفْ في كلّ الأحوال، ومنذ زوال الاستعمار الأسباني (المبارك) عن صحرائه عام 1975، غير البؤس والتشرد؟! ولستُ أدري كيف يكون زعيم المحاكم الإسلامية في الصومال معنياً حقاً بتطبيق الشريعة (من أجل خير الناس، كما قال)، إذا كان برنامجه الإسلامي مستنداً إلى دعم النظام العلماني الإريتري، في نزاعه مع النظام العلماني الآخر في إثيوبيا؟! وثالثةُ الأثافي هذا الذي يحصُلُ في غزة منذ سيطرت عليها حماس قبل قرابة السنتين. فقد كان زعماء حماس يعرفون أنهم لن يحرروا فلسطين من هناك، وأنه يتوقفُ على الحكمة والمسؤولية اللتين يُظْهرونهما، لكي لا تعود إسرائيل إلى القطاع الذي انسحبت منه. والذي حدث أنه وبعد الفشل في المواجهة، انصبَّ جهدُهُم على مُصارعة خصومهم في حكومة السلطة، ومُصارعة مصر جارتهم الأبدية. وها هم الآن يعتقدون أنهم يستطيعون التذاكي وسط المأساة والبلاء، فيلجأون في الإعلام على الأقلّ إلى ما لجأ إليه حلفاؤهم في سورية من قبل، بدعوة تركيا للتوسُّط بينهم وبين إسرائيل: أَوَليست إسرائيل هي العدوُّ الذي أخذتم على السلطة الفلسطينية أنها هدَّأت معه، ودخَلت في محاولات تسوية، تعتقدون أنتم أنها خيانة للشعب الفلسطيني، ولذلك انفصلتم عنها؟!

ولنلتفت إلى الطرف أو الفريق الآخر، فريق المثقفين والإعلاميين. ففي الحالات الثلاث غصّت الصحف والتلفزيونات خلال عشرة أيام الماضية بالوجوه والأقلام، ومن العواصم الغربية والعربية، والتي تدعو لتصعيد النزاعات: فالمثقفون الصوماليون الموجودون في لندن وباريس، والذين لا يحبون الإسلاميين، لا يقبلون أيضاً بالحكومة المؤقتة أو الانتقالية (لأنها مدعومةٌ من الغرب، كما قالوا). والمثقفون والإعلاميون المغاربة والجزائريُّون، يتحزب كُلٌّ لوجهة نظر حكومة بلده، دونما سؤالٍ ولو غَرَضي عن أحوال أولئك الصحراويين المتنازَع على رمالهم وأجسادهم. والمثقفون والخبراءُ العربُ الأشاوس تُلعلُع أصواتُهُم على الفضائيات في إدانة السلوك المصري، ويتهمون مصر بأنها مُشاركةٌ في الحصار والاحتلال! ونفرض أنّ بعض هؤلاء مأجور، فماذا نفعل مع الآخرين من ذوي الوعي الغائب؟!

إنّ الذي يبدو لي من هذه التجارب المأساوية على مدى أكثر من ثلاثين عاماً أنّ «المثقفين الثوريين» قد يكونون أكثر سوءًا من السياسيين أو العسكريين الثوريين! فهؤلاء يريدون السلطة أو الإمارة ولو على الحجارة، كما يقول مَثَلٌ عربي. لكنْ ماذا يريد المثقفون الأشاوس، ولماذا لا يسألون عن أحوال أهل غزة إلاّ في الإعلام، ومن أجل التشنيع، وبخاصةٍ أنهم يعلمون أنّ الغزاويين هم رهائن عند حماس أكثر مما هم رهائن الحصار الإسرائيلي! ومرةً ثانيةً وثالثةً ورابعة، لا أجدُ أبلغ من بيت شعرٍ مشهور لعمر أبو ريشة في التعبير عن الوضع الذي نحن فيه:

لا يُلامُ الذئبُ في عدوانه

إنْ يكُ الراعي عدوَّ الغَنَمِ