العقيدة أو الآيديولوجيا؟

TT

محمد الأحمري باحث إسلامي سعودي معروف، أثار هذه الأيام ضجة كبرى بمقال كتبه معلقا على نجاح باراك أوباما رئيسا للولايات المتحدة، الذي اعتبره رمزا لانتصار الديمقراطية على الوثنية، معطيا دلالة عقدية جديدة لمفهوم الشرك بربطه بالاستبداد والقمع والانغلاق. وكان الباحث نفسه قد تسبب في عدة نقاشات ساخنة اثر مداخلات ومحاضرات خرج بها في الآونة الأخيرة بعد أن هجر مخدع الناشر، وجه فيها انتقادات لاذعة للتيار الصحوي السروري الذي كان يصنف داخل السعودية بأنه احد وجوهه، مطالبا بإزاحة شؤون العقيدة عن الموضوعات السياسية، مما أثار نقمة بعض الأقلام الإسلامية المعروفة التي وجدت في كلامه تبنيا صريحا للعلمانية وتخليا عن عقيدة السلف الصحيحة.

وليس من همنا دخول هذا الجدل الذي ليس هذا مجال التطرق له، وإنما حسبنا الإشارة إلى أن الاحمري هو نموذج من عدة نماذج للكتاب الإسلاميين الذين اكتشفوا بعد الانفتاح على الفكر الحديث ضرورة القيام بنقد ذاتي جذري للخطاب الانكفائي الضيق السائد في صفوف التيارات الإسلامية إزاء الآخر.

وكما يقول الأحمري نفسه فان علاقة الإسلاميين بالحرية تستدعي مراجعة نوعية، لما يسمها من هاجس الخوف والخلط الساذج بين الفساد الأخلاقي وفكرة استقلالية الذات وممارستها لحقوقها المشروعة.

وقد تبدى لي أن هذا الموقف ينبع من مصادرتين متمايزتين نادرا ما يتم التنبيه إليهما، هما: القول بالتلازم بين المسلمات العقدية والحقائق المعرفية والنظم السلوكية، واعتبار الخصوصية الثقافية مرتكز الهوية في تميزها الذي يسمها طابعا أحاديا متفردا عن الآخر.

وإذا كان للمسلمة الأولى جذور تراثية معروفة، قوية في النسق السلفي بمختلف اتجاهاته، فان المسلمة الثانية تنبع من تصورات نظرية حديثة وان كانت في الغالب غير واعية.

فبخصوص تلازم العقدي والمعرفي والسلوكي، تتعين الإشارة إلى أن هذا الترابط ليس بديهيا، بل تبين الأدلة الموضوعية زيفه. فليس من الصحيح ان قيمة وصحة الملفوظات والخطابات أو الممارسات متوقفة على مرجعيتها العقدية، بل إن الموقف الذي تبناه أهل السنة منذ العصور الوسيطة هو رفض القيمة المعيارية الذاتية للقول والفعل، على عكس مذهب التحسين العقلي وأسبقية الضرورات العقلية على المشيئة الذي هو المذهب الاعتزالي المعروف. ينضاف إلى هذا الأمر ما تقرر لدى كل طوائف السنة من نفي الطابع العقدي عن المباحث السياسية التي هي من الظنيات والفروع التي لا يكفر في أمورها احد. فالمطالبة بالفصل بين العقدي والسياسي، فضلا عن كونها مبررة شرعا، هي في الآن نفسه ضرورة موضوعية لإصلاح أوضاع الأمة وتجنيبها الآثار السلبية للتعصب المؤذنة بالفتنة والتناحر.

وغني عن البيان اليوم أن الأزمات السياسية الخانقة التي تعاني منها الأمة تغذيها تلك الاعتبارات العقدية، كما هو شأن الصراع القائم في العراق أو الفتنة اللبنانية.

أما القول بالعلاقة التلازمية بين الهوية والخصوصية الثقافية فيعود إلى أطروحة أنثروبولوجية سائدة، دعمتها الأدبيات الاستراتيجية الجديدة، التي شاعت على نطاق واسع بعد أحداث 11 سبتمبر 2001. ولا شك أن الخلفية البعيدة لهذا التصور هي النزعات القومية الحديثة التي أناطت بالدولة مسؤولية التعبير عن الروح الجماعية للأمة، فانتهت إلى إعطاء السيادة مدلولا ثقافيا مغلقا، حتى داخل الفضاء الحضاري المشترك (كالفضاء الأوروبي مثلا). ومع أن العامل الديني بقي هو أساس الوعي بالهوية الخصوصية في ثقافتنا، إلا انه حول في الواقع إلى عقيدة قومية خاصة، بدل النظر إلى الدين في جوانبه الكونية المتسعة من حيث هو خطاب إرشاد وتوجيه وتسديد لا آيديولوجيا تعبوية تكرس الانتماء الخصوصي.

لقد تسببت مرة في احد الحوارات الفكرية العربية المشهودة في استفزاز غير مقصود لنشطاء إسلاميين بقولي إن خطاب الخصوصية الثقافية بدعة في الإسلام وتأثر ضمني باللاهوت المسيحي الذي افرز فكرة الذاتية. وقد رد علي احدهم انه يستغرب أن يصدر هذا الكلام على متخصص في الفلسفة يدرك أن خطاب المرحلة هو تأكيد حق الاختلاف والمغايرة الذي هو مبدأ إسلامي أصيل يحمي ديننا وثقافتنا من الضياع باسم الحوار العقدي العقيم. وفي الوقت الذي وافقته في عقم الجدل الميتافيزيقي، ذكرت له ان فكر الاختلاف بصفته انزياحا مطلقا ومغايرة انفصالية ينبع من اللاهوت اليهودي كما يقول ريكور.. ولسنا مرغمين على أن نختار بين أحد اللاهوتين.