مرة أخرى: السودان في مفترق طرق

TT

حاول وزير خارجية السودان أن يعتذر بدبلوماسية عن خطاب البشير الذي اعتبر نقضاً للمبادرة المشتركة التي رحب الجميع بها بما في ذلك الحكومة، وقال: حديث الرئيس يجب أن يفهم في سياق الزمان والمكان والجو الحماسي. وذكّر بعدم استغلاله ضد الحكومة، مشيراً إلى أن الرئيس سبق وأعلن قبوله التام للمبادرة بدون تحفظات. لكن المفاجأة تكررت بعد يومين فقط حين أكد البشير في خطاب جماهيري آخر ما قاله، نافياً ما برر به وزير الخارجية، وقال: واهم من يتصور أن السلام سيعني تراجع السودان عن مشروعه الحضاري وأنه يود أن يكرر ما قاله ثانيا وثالثا ورابعا، وهاجم من أسماهم بالخونة والعملاء، مما زاد من احتمالات فشل المبادرة، وزاد من احراج وزير خارجيته الذي يفترض أن يستقيل أو يقال، لكن هذا الافتراض لا يبدو وارداً في الأنظمة الشمولية، خاصة إذا كان هناك تقاسم أدوار! في كل الأحوال هناك اعتقاد أن ما يبدو خلافا داخل السلطة في شأن إعلان مبادئ المبادرة المصرية ـ الليبية لا يتعدى حدودا بين شريحة تدعو إلى رفضها منذ البداية، وأخرى تسعى إلى اجهاضها عبر تفسير بنودها وباستخدام وسائل دبلوماسية ناعمة، والمحصلة في النهاية واحدة. وإذا صح هذا التفسير وهو على الأرجح صحيح، فإن وزير الخارجية باق في موقعه، والرئيس سادر في الإصرار على التمسك بثوابت الإنقاذ ومشروعها الحضاري، لكن الغريب في هذه اللعبة هو أن يقف الرئيس في صدارة المتشددين بينما كان الأوفق أن يكون في طليعة المباركين للوفاق بانتظار التفجير من الداخل عند بحث نقاط المبادرة خاصة أن احد الوزراء قال إن وراء كل بند شيطانا من شأنه أن يطيح بها مما يعني العزم وسبق الإصرار على تخريب المبادرة من الداخل بكل سهولة ويسر.

وفي اعتقادي أن الرئيس أوكل اليه دور قيادة جناح المتشددين لجملة اعتبارات، أهمها أن هذه اتفاقية ستضمن له الاستمرار في رئاسة الدولة في الفترة الانتقالية وبالتالي فإنه لا بد أن يبدو متشدداً حتى يضمن الآخرون أنه لن يتركهم بلا مواقع ويضحي بهم في حزمة الوفاق، هذه واحدة.. الثانية ان النظام فقد الغالبية العظمى من قاعدة الإسلاميين بانشقاق الترابي، ولذلك فإن انجراف البشير ولو ظاهرياً مع المبادرة من شأنه أن يدفع بالقوات المسلحة خلف المبادرة مزايدا على التيار الشعبي المندفع معها فيصعب بعدئذ اجهاضها. لهذه الأسباب ولغيرها مما لا يسمح المجال بسردها، رأت القوى المحركة للنظام كصمام أمان لوضعها أن يضع البشير نفسه في قيادة التيار المتشدد والأعلى صوتاً في التمسك بما يسمى بثوابت الإنقاذ ومشروعها الحضاري، والتمسك بشرع الله. ولعل في ما ذكر عن القوات المسلحة يفسر أن مجموعات من كل الدفعات المتخرجة من الكلية الحربية من الضباط المتقاعدين قدموا مذكرة للبشير تطالب بدعم المبادرة وعدم السماح باجهاضها، وفي هذا ما يشبه الرد على من يريدون الزج بالقوات المسلحة لتأخذ خطاً مناقضاً للإرادة الشعبية ولمصلحة فئة معينة، وهناك الكثير والمثير الذي يدور همساً وراء الكواليس!.

أما الحديث عن ثوابت الإنقاذ التي لا رجعة عنها، كما يقول البشير، فالكل يعلم كم تغيرت منذ انقلاب 89 حتى الآن، بل انها تحركت حتى شملت جسم «الإنقاذ» نفسه، فانشطر إلى جزءين أو أكثر، وذهب شيخهم الكبير ومعه الشريحة الأكبر، ولا نريد أن نعدد المتغيرات التي شملت كل ما يعدونه ثوابت، بل نقول لا غبار على أن تتمسك الشريحة الحاكمة بما يسمونه بمشروعهم الحضاري، فذلك شأنهم وليس من حق أحد أن يطلب منهم أن يتنازلوا عنه، مثلما ليس من حقهم أن يطلبوا من الآخرين أن ينصاعوا لمشيئتهم أو ينخرطوا في مشروعهم، لكن إصرارهم عليه باسم الدولة وباسم السودان فيه افتئات على إرادة السودانيين مسلمين ومسيحيين علماً بأن مشروعهم هذا جاءوا به من على ظهر دبابة وليس عبر صناديق الاقتراع، وقال وقتها الترابي: إنه ما كان بوسعهم أن يصلوا إلى السلطة ويبسطوا مشروعهم بالأغلبية الشعبية. وتلك هي مشكلة الجبهة وليست مشكلة السودان، وعليهم أن يحلوها بالتحلي بقدر من الشجاعة والتجرد.

الآن بعد 12 عاماً من الحكم، وهي فترة كافية للترويج لمشروعهم الحضاري بعد أن سخروا كل امكانات دولة السودان له، عليهم أن يجربوا تسويقه عبر صناديق الاقتراع الحرة ليحكم الشعب لهم أو عليهم، وطالما يتشدقون بانحياز الأمة لهم ولثوابتهم ومشروعهم الحضاري، فعليهم أن يفرقوا أولا بين الدولة التي هي للجميع، وحزب المؤتمر الوطني الذي هو لهم ولمشروعهم. هذه مسألة في غاية الأهمية، ومن هنا يلزم البشير كدولة أن يقبل بالتنازلات المطلوبة من أجل الوفاق، لأن هذه التنازلات لا تعني المساس بحزبه وإنما تعني حقوق دولة الجميع. وبعد أن يتم الوفاق وتتحقق دولة السودان الانتقالية وحين يتم إجراء الانتخابات البرلمانية القادمة على حزبهم أن ينازل الآخرين بثوابته ومشروعه الحضاري، فإن كسب كان له ما أراد، وإن خذل فعليه أن يقبل بما تمليه الإرادة الشعبية لا أن يحاول الانقضاض مرة أخرى على الديمقراطية!.

إن إصرار البشير وحزبه على أن تقبل كل الأطراف بثوابتهم ومشروعهم الحضاري، فإن ذلك لا يعتبر وفاقاً وإنما انخراطاً والتحاقاً بالنظام وهو أمر لا يمت للوفاق بصلة، مثلما أن إصرارهم على قبول برنامج حزبهم متسلحين بسلطان الدولة، فإنه يعني خلطاً للأوراق بين حزبهم ودولة كل أهل السودان. لا بد أن يحتفظ البشير بالمسافة المطلوبة بين حزبه وبين سلطة الدولة وما لم يفعل ذلك فإنه بلا شك ليس جاداً في الوفاق والمصالحة الوطنية ولن يكون رئيسا لكل السودانيين!.

وهناك ظواهر كثيرة تشير إلى أن النظام أخذ يرفع من وتائر تصعيد المواقف لا تهدئتها كما يستوجب المناخ المطلوب لإنجاح المبادرة، ففضلا عن تكرار الخطب الهجومية للبشير اعتقلت سلطات الأمن علي محمود حسنين القيادي البارز في الحزب الاتحادي لثماني ساعات وحققت معه في علاقة حزبه بجون قرنق، وفي تصريحات اطلقها بوصفه قائد فريق الدفاع عن هيئة قيادة التجمع المعتقلة وكذلك عن الترابي، يجيء هذا التصرف في وقت كان ينتظر فيه أن تطلق الحكومة سراح المعتقلين إثباتا على حسن نياتها واتجاهها نحو الوفاق. كذلك انفتحت اجهزة الإعلام المرئية والمسموعة على إعادة بث ما في سجلاتها القديمة من أشرطة تهاجم الأحزاب والديمقراطية وتمجد الإنقاذ ونهجها الجهادي ضد الجميع خاصة «الخونة والعملاء» كما يطلق البشير من أوصاف على المعارضة وجون قرنق! وفي الوقت الذي فتحت اجهزة اعلام النظام حقائب اشرطة الماضي المليء بالهجوم على الآخرين، ما زالت الصحف المستقلة تعيش تحت وطأة الرقابة المشددة ما يعني أن الحديث عن هامش الحريات ليس بالقدر الذي يتكافأ مع المناخ المطلوب لتحقيق الوفاق المنشود.

من جهة أخرى، كان البشير واضحاً جداً في إفراغ الحكومة الانتقالية من أي مضمون بالرغم من أن المبادرة نصت على ان تتشكل من كل القوى السياسية مما يعني عدم سيطرة طرف واحد عليها، ويكون من مهامها إقرار الدستور الجديد وتنفيذ البرنامج المتفق عليه وإجراء الانتخابات الحرة، إلا أن البشير قال: انها لن تكون على غرار الحكومات الانتقالية التي شكلت في أعقاب اسقاط الحكمين العسكريين السابقين في السودان، بل ان أي حزب يتفق مع مبادئ الإنقاذ سيدخل الحكومة الانتقالية. وذلكم هو الانخراط لا أكثر ولا أقل. فما معنى حكومة انتقالية إذا كانت متفقة مع مبادئ الإنقاذ؟ فإلى أي شيء تنتقل؟ ولماذا الانتقال طالما الحال هو الحال؟!.

كذلك فإن إصراره على ما يسميه بتطبيق شرع الله وعدم التنازل عنه بأي حال من الأحوال وتكرار ذلك في كل المناسبات بوتائر انفعالية جعل كثيرا من المراقبين يرجحون ان الشريحة الممسكة بزمام الحكم من الإسلاميين قد برعوا في إجادة تعاليم الترابي لهم حين يقول شيئاً ويهدف إلى تحقيق غاية بعيدة عنه، وانهم الآن بالعزف المستمر على هذه الوتيرة سهلوا للجنوبيين المتحالفين معهم في الحكم وشجعوهم على انتقاد المبادرة المصرية ـ الليبية بحسبانها لم تتطرق إلى فصل الدين عن الدولة ولا إلى حق الجنوبيين في تقرير المصير، مثلما أفسحوا الطريق أمام المتشددين لقراءة نقاط المبادرة وكأنها صممت لاقصاء الدين عن الدولة من كثرة حديث البشير عن الشهداء الذين قدموا أرواحهم في سبيل العقيدة وشرع الله!.

مما لا شك فيه أنهم بمحاولة المتاجرة بالدين في السياسة يقصدون أن يحرجوا القوى السياسية الشمالية الأخرى بحسبانها تنكص عن الدين، أو جذبها للدخول في مزايدات معها.. وها هو للأسف الشديد، ينجر الصادق المهدي معهم ويدخل هذه الساحة التي ليس هذا أوانها ولا مكانها ويعلن أنه لا يقبل الفصل بين الدين والدولة أو الدين والسياسة، وهو بمثل هذا الحديث يزيد الأمور تعقيداً ويؤجج خصوماته السابقة مع الحركة الشعبية ويغري النظام أكثر مما يدعوه للتعقل ويتناسى المبدأ الذي تواصى عليه الجميع بما فيهم النظام من أن المواطنة هي أساس الحقوق والواجبات مع الاعتراف والتعامل بمساواة بين كل الأعراق والأديان والثقافات.

على كل حال إذا غاص الجميع في هذه المتعرجات ولم يلتفتوا إلى ما يوحد السودان فستظل كل المعاول تنهش في هذه المبادرة التي سرعان ما ستدفن.