الدروز: عبقرية الانتماء ورداءة المكان والزمان

TT

اذا كنت لا تحبهم فلا تتابع قراءة هذا الموضوع، فأنا منحاز اليهم. ومن خلال محبتي لهم احرص على ان اكون صريحا ونزيها في عرض رؤيتي وفهمي لمواقفهم وقضاياهم.

الدروز طائفة دينية في المشرق العربي الذي يعج بطوائف ومذاهب واديان واقليات ودول متعايشة حينا، ومتهادنة حينا، ومتناحرة او متقاتلة حينا.

لكن هذه الطائفة ذات الخصوصية الشديدة هي بين الاقليات الدينية الصغيرة التي تتمتع بـ«عبقرية الانتماء». ففي رداءة هذا الزمان الذي باتت فيه العروبة خجولة بهويتها، وكسرة القلب بهزائمها، ومتهمة عند الاقليات بالعنصرية، يفاخر الدروز بانتمائهم العربي مؤكدين أصالتهم القومية فهم «بنو معروف» امام من يحاول ان ينسبهم الى مزيج خليط من فرس وكرد وعرب.

عبقرية الانتماء لا تواجِه فقط رداءةَ الزمان، فهي ايضا ضحية «رداءة المكان». فالدروز مَرْشوشون بنسب اقلوية مختلفة على اندفاعات بركانية وجبلية وعرة في جنوب سورية ولبنان والجليل الغربي في شمال فلسطين المحتلة. وهذا يعني انهم يعانون من شقاء توزعهم الجغرافي والسكاني على اربع دول: سورية ولبنان والاردن واسرائيل.

وكانت الجبال في القرون الوسيطة ملاذا آمنا في العالم كله للاقليات العرقية والدينية خوفا من الاغلبية. ومع جهالة الدولة العثمانية وضعفها في القرن التاسع عشر، وجد الدروز في الانجليز حليفا لهم، في مواجهة الموارنة الذين اغتربوا ثقافيا وسياسيا عن المشرق العربي وانضووا تحت المظلة المنافسة، المظلة الفرنسية.

العلاقة الدرزية ـ البريطانية عبرت عن ذاتها بأشكال ومناسبات مختلفة في القرن العشرين. فقد احتضنت المنطقة الدرزية في لبنان المدرسة التي اقامها الانجليز لتدريس ديبلوماسييهم ورجالهم في المشرق اللغة والعادات العربية.

وعندما اجتاح الدكتاتور اديب الشيشكلي بدباباته جبل الدروز في خطأ كارثي خلال الخمسينات السورية، اضطر الزعيم الدرزي الكبير سلطان الاطرش الى اللجوء الى الاردن. وكان النفوذ البريطاني قويا آنذاك هناك.

ولم تَخْلُ هذه العلاقة من طرافة. فعندما تأهب الانجليز لاجتياح سورية ولبنان لطرد قوات فيشي الفرنسية المتعاملة مع الالمان خلال الحرب العالمية الثانية، لم يجدوا سوى المطربة الدرزية الشهيرة اسمهان (آمال الاطرش) سفيرة محملة بالذهب الى الدروز. وكانت اسرة اسمهان الصغيرة قد لجأت الى مصر عندما اجتاح الفرنسيون جبل الدروز في العشرينات.

لكن العلاقة مع الانجليز لم تَرْقَ الى مستوى عبقرية الانتماء. فقد كان الدروز حاضرين بقوة في صميم النضال القومي العربي. ويكفي ان اذكر هنا ثورة سلطان الاطرش ضد فرنسا، وعمليات شكيب وهاب ضد الصهاينة في الجليل خلال حرب 1948.

وقد توارت العلاقة مع الانجليز وغابت بعد نشوء طبقة سياسية درزية جديدة. وتجلت عبقرية الانتماء القومي بلا اية عقد طائفية في مشاركة الدروز الفاعلة في السياسة، فكانوا موجودين في قيادة الانقلابات التي عرفتها سورية، وتوزعوا على الاحزاب والتيارات في المنطقة، ووصلوا الى مراكز قيادية ولا سيما في حزب البعث.

بل استطاع الدروز في مثاليتهم الوطنية والقومية ان يتجاوزوا حدود استقلال لبنان عن سورية، فكانوا ساسة واداريين مقبولين في البلدين. فها هو عارف النكدي القادم من بعقلين اللبنانية قاضيا ومحافظا في سورية، وشاهدا ضُرِب به المثل في الاستقامة والنزاهة والتجرد.

وها هو عادل ارسلان (شقيق شكيب ارسلان) وزيرا لخارجية سورية في حكومة حسني الزعيم. ثم ها هي الكتل العسكرية المتصارعة في الجيش السوري تُجمع على القبول بالعماد شوكة شقير القادم ايضا من لبنان رئسيا للاركان في الفترة الحرجة التي سبقت الوحدة مع مصر، ليحول دون الصدام المسلح بينها بحكمته وتجرده والثقة المطلقة به.

لكن كمال جنبلاط (1918 ـ 1977) كان اهم زعيم سياسي انجبته الطائفة في القرن الماضي، لا لأرستقراطيته الزعامية الموروثة، ولا لمشاركته الحارة والحيوية في اللعبة السياسية اللبنانية، انما لمحاولته الخروج بلبنان من اسر الطائفية الى فضاء الوطنية الصحيحة والانتماء العربي الرحب.

بعد غزل قصير مع الآيديولوجيا الكتائبية في قوقعتها المارونية، ومع آيديولوجيا انطون سعادة القافزة بقوميتها السورية فوق العروبة، تنضج تجربة كمال جنبلاط السياسية والفكرية، فيشكل حزبا اشتراكيا حاول ان يستقطب فيه الشباب من كل الطوائف على قاعدة لبنان ديمقراطي مستقل ومتحرر من الطائفية السياسية وعادل اجتماعيا.

عبقرية الانتماء العربي عند كمال جنبلاط كانت ايضا ضحية لغدر الزمان ورداءة المكان. فقد قطعت الحرب الطائفية عليه الطريق، بل دفع حياته ثمنا لاعتقاده الخاطئ بان الحسم العسكري هو الحل لخروج لبنان من متاهاته الطائفية.

لم يُحْظَ كمال جنبلاط فكرا وسياسة، بَعْدُ، بالبحث والدراسة الكافيين لانصافه تاريخيا ولتقدير وتقييم اهمية تجربته الاجتماعية، ربما لان السياسة العربية لم تستهلك كل وقته وجهده كما فعلت بندِّه ووالد زوجته شكيب ارسلان المفكر والسياسي المعروف.

وفي المقارنة بين الرجلين، اقول ان شكيب ارسلان (1869 ـ 1946) تجاوز ايضا طائفته وحدود لبنان الضيقة، لكنه كان فكراً وسياسةً وممارسةً كتلة تناقضات. فعلى الرغم من وعيه المبكر لعروبته واسلامه، فقد بدأ حياته السياسية داعية للرابطة العثمانية، في وقت نفض الساسة والضباط والمثقفون العرب ايديهم من اي امل في اصلاح الدولة العثمانية، وفي تحقيق نوع من المشاركة للعرب في سلطتها السياسية.

بل يتورط ارسلان في صداقة وعلاقة مع باشوات الحركة القومية الطورانية كأنور وجمال وطلعت الذين حيَّدوا الخليفة عبد الحميد، ثم زجوا بالامبراطورية في الحرب العالمية الاولى الى الجانب الالماني الخاسر فيها، وحاولوا تتريك العرب، وانتهوا بخسارة الحرب والامبراطورية والعرب، لكن بعدما نصبوا المشانق في بيروت ودمشق لرجال النخبة العربية.

هذه التطورات الدرامية العاصفة لم تمنع شكيب ارسلان من الاستمرار في الرهان على العلاقة التركية ـ العربية. فها هو يناشد مصطفى كمال (اتاتورك) ان لا يقطع الصلة مع العرب، وان يستمر في ربط ولاية الشام (سورية ولبنان والاردن وفلسطين) بعجلة تركيا الحديثة! وكأن العرب والسوريين بالذات لم يكفهم ما عانوا من نير الاستعمار العثماني وتخلفه على مدى اربعة قرون.

ولعل الاعتذار الوحيد الذي استطيع ان اقدمه عن خَطَل سياسات شكيب ارسلان ومواقفه، هو ان الرجل بصفاء نية وطيبة خاطر، ربما تأثر بالدعوة الدينية الاصلاحية عند الافغاني ومحمد عبده، وترجمها الى ضرورة استمرار العلاقة السياسية بين العرب وتركيا على اسس جديدة من الحرية والمساواة، مدفوعا بحكم اقامته الطويلة في جنيف واطلاعه عن كثب على المؤامرات الاستعمارية الاوروبية، بالخوف من ان لا يقوى العرب وحدهم على مواجهة الاستعمار الحديث.

كان المفكر والسياسي شكيب ارسلان، اذن، ضد المشروع الهاشمي الوحدوي. لكن عندما ادارت تركيا الكمالية ظهرها للعرب، تخلص من اوهام العلاقة الاستعمارية والدينية معها، وعاد الى ايمانه الصافي والعميق بعبقرية الانتماء للعروبة في اسلامها المنفتح المتسامح، وظل مفكرا وداعية لها الى آخر رمق في حياته.

عبقرية الانتماء العربي عند كمال جنبلاط اكثر حداثة من عروبة عمه والد زوجته. فقد اضفى جنبلاط على عروبته البعد الاجتماعي، بتبنيه اشتراكية انسانية في قالب ديمقراطي لا ثوري، في حين كانت الناصرية والاحزاب القومية تتجه الى تبني نسخة من الاشتراكية الماركسية اكثر غموضا في موقفها من قضية الديمقراطية والحرية السياسية.

هذه هي اهمية كمال جنبلاط اللبنانية والعربية ودعوته الى علمنة العروبة كانت لطمأنة الطوائف المسيحية القوية والمهيمنة سياسيا واقتصاديا على لبنان النصف الثاني من القرن العشرين. لكن ظل الدروز، وفي لبنان بالذات، يؤكدون في خطابهم السياسي والروحي على اسلامهم ووحدانية ايمانهم، وإنْ تجنب زعماؤهم من جنبلاطيين ويزبكيين توريط المؤسسة الدينية الدرزية في السياسة.

احسب ان ثلاثاء «الشرق الاوسط» المقبل لا يضيق بحديث آخر عن قضايا الدروز في الدول المقيمين فيها، وعن امكانية تبني يسار عربي جديد لاشتراكية جنبلاط في مواجهة عولمة عشوائية وليبرالية رأسمالية غير واعية للمأزق المعيشي.