غاندي وتشرشل

TT

أقرأ في كتاب حديث عن «غاندي وتشرشل»، وأتذكر على مدى الصفحات نلسون مانديلا. لو أعدنا قراءة هذا التاريخ مرة أخرى، لوجدنا أن الضحية غالباً هي التي تنتصر، وأن السلم هو الذي ينتصر غالباً على الحرب. انتصر تشرشل في الحرب العالمية الأولى والثانية، وحمل معه إلى الموت الهزيمة التي أنزلها به هندي ضئيل الحجم لا يدخن السيجار، ولا يضع أغلى ربطات العنق ولا يطلق أضخم المدافع. مات تشرشل وهو لا يعترف بالهند المستقلة ولا بانفصال بورما عن التاج، ويعتبر أن الهند كانت جزءاً من تاريخ «الشعب الإنكليزي». وعندما تقرأ تشرشل اليوم تجد في كتاباته أسوأ أنواع التعابير العرقية والعنصرية.

هزمه محام صغير مجهول، ضعيف الحنجرة، لا يملك سارية واحدة من الأسطول الذي كان يضبط حركة الأرض. لا أدري ما هو سر المصادفة. لكن أرفع أسماء الانتصارات السلمية في التاريخ لم تكن بيضاء البشرة. أفكر طبعاً في غاندي وفي مانديلا وفي مارتن لوثر كنغ. وأفكر في المقابل في ذلك الصف الطويل من الرجال الذين خذلوا أفريقيا والبشرة السمراء ونهبوا ثروات الأرض وشردوا أبناء الأمة ونشروا ثقافة الخراب والخيانة والفقر وقطع الآذان وسرقوا الأرغفة من بطون الجياع.

الذين هزموا الرجل الأبيض وكسروا جبروته وأعادوه إلى مواقعه وأعلوا كرامة شعوبهم وذوبوا الأصفاد، لم يكونوا عسكريين وقادة معارك. كانوا رجالا أنقياء ويحبون شعوبهم لا أوسمتهم ولا عصيهم ولا أبديات الحكم. لم ينه نلسون مانديلا آخر حكم أبيض في أفريقيا، بل أنشأ أول دولة حقيقية سمراء، أول جمهورية تعرف معنى الجمهورية والدستور، يوم ذهب إلى بيته في آخر يوم من أيام الولاية. وأرغم من جاء بعده على تقليده. وأرغم العالم، جميع العالم، على تقديره واحترامه، من دون أن يرفع العصا الغليظة في وجه أحد، ومن دون أن يسفه أحداً، ومن دون أن يتسفه في شيء.

حرر غاندي أكبر بلد مستعمر في العالم من أضخم استعمار في تاريخ الأرض. وهزم البلد الذي اشتهر بكبار القادة العسكريين. بلاد نلسون ومونتغمري واللنبي. ولم يدخل هو كلية عسكرية. كان محامياً مثله مثل مانديلا. بدأت حقوق السود في أميركا مع عاملة تدعى روزا باركس. لولا شجاعتها لما وصل كولن باول في ما بعد إلى رئاسة الأركان ولما انتخبت أميركا، بأكثرية كاسحة، ابن مهاجر كيني، لرئاسة الدولة.