لبنان مين قدّك!

TT

انت بحاجة لاعصاب من حديد كي تعيش المفارقات اللبنانية من دون ان تتعرض لفصام يلازمك مدى الحياة. من هنا يحق للبناني ان يعتبر نفسه متميزاً، وعلى الإخوان العرب ألا يعترضوا ويسلبوه متعة التبجح بهذه النعمة الملغومة، التي يسبح بها متفرداً وسط محيطه العربي. فحياة اللبناني مميزة لانها مفخخة بالمفاجآت المثيرة، التي تجعله محكوماً بالقفز البهلواني القسري بين عنف الكوابيس وطراوة الاحلام، حتى تكاد اقدامه لا تلمس الارض الصلبة التي يتحرك عليها الناس العاديون.

ولك عبرة هذا الصيف في الكسوف الذي حجب التيار الكهربائي بوتيرة تذكر بأيام الحرب، بينما تشتعل المهرجانات اضواء واشعاعاً، امعاناً في التأكيد على ان السلم راسخ، وان الحياة عادت الى افضل مما كانت عليه. ولا اعتراض على المهرجانات بحد ذاتها فهي متنفسات تصقل الذوق وتنمّي الحس النقدي، وهنا الورطة! اي ان يكون لك حس نقدي.

فإذا اسعدك الحظ برؤية عرض ضخم من وزن «نوتردام دو باري» للشاعر الكبير فيكتور هوغو في «بيت الدين» او سنحت لك الفرصة مشاهدة اوبرا «كارمينا بورانا» في بعلبك المبنية لوحاتها الراقصة المغناة، على لعبة فاتنة للضوء والمؤثرات المشهدية. وتلفّت حولك معايناً مناخاً مترفاً من الفساتين والبدلات الانيقة، وسمعت ألسناً ترطن بالانكليزية والفرنسية ولغات تميزها، واخرى لا تعرف منبعها، حينها لن تصدق انك في لبنان، وستظن انك انتقلت، على بساط الريح، الى بقعة من جنان الانوار. وحين يجتمع البهاء التاريخي بالموسيقى والرقص والديكورات الباهرة والحضور الحاشد، ومع هذه جميعاً طاقة كهربائية هائلة، تحيل الليل نهاراً. بينما انت تفتقد الى مصباح من 20 شمعة في بيتك، فإنك حتماً، ستشعر بانتشاء المتصوفين والشعراء والملهمين الى ان تستعيد وعيك بالوصول الى باب عمارتك، وتجد ان الكهرباء مقطوعة. هناك عليك ان تتحسس اطراف الدرج، لتصعد الطوابق زحفاً، قبل ان تفلح في دخول باب كهفك المظلم. وتتيقن من انك بعض مخلفات العصور الوسطى، وان ما كنت تعيشه، منذ قليل ليس سوى فسحة مصطنعة، تعود بعدها لترتطم بالجدران وتتعثر بقطع الاثاث بحثاً عن شمعة صغيرة، تنقذك من هذا التيه، دون ان تتمكن من تبريد جسدك المحموم، في هذا الحر الذي لا يطاق، والذي يجلب البعوض والذباب، فمن دون كهرباء «فالج لا تعالج»، اذ ان مكافحة كافة اشكال المضايقات باتت كهربائية، في هذا الزمن الذي ندّعي الانتماء اليه في المهرجانات والاعلانات السياحية، بينما نعيش غيره في حميمياتنا البيتية. اما الاعلانات فبإمكانك ان تصدقها من دون تردد، فالفنادق كفيلة بتأمين راحتك بقدراتها الخاصة. اما المواطن فليس له سوى الاعتماد على قوة صبر فولاذية، يحسد عليها، خاصة حين تطالعه شاشة التلفزيون بدعاية بهيجة وواثقة تقول بالفم الملآن: «لبنان مين قدّك». عندها يحق للمشاهد ان يفرقع غضباً، وان يلوم فيروز التي تحاول اقناعه منذ عقود ان «لبنان قطعة سما» ويلعن المثل الذي يمننه بأن له «مرقد عنزة في لبنان».

ولو توقف الامر على انقطاع التيار لأسباب عابرة لهان الامر، لكن المأساة الملهاة ان النزاعات قائمة بين مختلف الاطراف التي تتبادل الاتهامات، وعبثاً ترسو التهمة على جهة تُقاقَب او تعتذر او تعدك بأن تتوقف عن استنزاف انتمائك المشبوه الى القرن الحادي والعشرين.

حين تكون محاصراً على هذا النحو السافر، ستجد «التطنيش» و«التأجيل» و«التناسي» جزءاً من قاموسك السلوكي الذي يتشكل تحت وطأة الضغط وتراكم الضغط. و«التطنيش» في لبنان ليس ظاهرة فردية وانما سياسة منظمة تراهن على غيبيات المجهول. وقدرة الزمن على طي الصفحات وتبديدها. فكل الملفات الساخنة التي تفتح، تبقى معلقة رغم قوتها الانفجارية، تتأرجح مداً وجزراً، وأخذاً ورداً، حتى يكل المواطن من متابعتها. وبإمكانك ان تتذكر عشرات «المعلقات السياسية»، وهي لا سبع ولا عشر على نهج المعلقات الشعرية، اذ هناك مثلاً معضلة الاملاك البحرية وزراعة الحشيش والتنصت وقرصنة المخابرات الخارجية ومخالفات البناء والنزاع مع شركتي الخليوي وتوحيد الجامعة اللبنانية وتفريع «كازيون لبنان» والغاء محركات المازوت والزام المتخلفين بدفع فواتير التلفونات وجباية فواتير الكهرباء واللائحة طويلة، والحلول تبدو عصية، في ظل بطء وتعثر وضبابية في تبيّن آليات المعالجات، التي تكتفي بتدخلات مسكّنة او ترقيعات جزئية. وثمة ما هو افظع من ذلك حين تأتي اقتراحات حلحلة تكافئ الجاني والمخالف بأن تقدم له تنازلات تشجيعية وحسومات على الفواتير المتأخرة بمثابة جوائز ترضية. او كأن يعتبر المظلوم متجنياً بأن اشتكى من مظالمه، والمستبد حليماً لأنه تقبل اهانة الاعتراض على تجاوزاته.

ثم تسأل لماذا يتميز اللبناني؟

ببساطة، لانه يحتمل ما لا تقوى عليه الجبال ويبقى مبتسماً ومنشرحاً وسعيداً بفسحة الحرية الكلامية، التي تتيح له ان يقول علناً وعبر مكبرات الصوت ثورته وغضبه.

وقد استجدت في الآونة الاخيرة تقليعة البرامج التلفزيونية الهزلية السياسية الساخرة، وتميزت بجرأة استثنائية لم توفر سياسياً الا ووخزته بدبابيسها وإبرها، وهي برامج تلقى صدى قوياً، عند مشاهدين، يطاردونها في المحطات، ويحفظون مواعيدها. لانها تقول الحقيقة بدون اقنعة ومواربات، الا انها برامج «فشة خلق»، تمتص الغضب وتسهم في تعزيز «التطنيش» و«التناسي»، وقد تكون سلبياتها اكبر من ايجابياتها، ومنافعها لا تتعدى تفعيل الاحساس الثأري عند المواطن من مسؤول لا يسأل عنه، وهنا ينتهي دورها. فيما تبقى المعلقات السياسية قائمة والمواطنون يرتعون في جنان ديمقراطيتهم وتمايزهم المتخيل.

يتكلمون عن الشفافية في لبنان، والشفافية لا تترعرع الا في ظل الضوء، الشفافية تكره العتمة، ولبنان في موسم القيظ، على ابواب آب اللهاب يحيا موسم العتمة وتقنين الضوء، دون ان يكون هناك مبرر يقبله العقل. وللأسف، في هذا الوطن المميز الذي تفوق حدوده النرجسية حدوده الجغرافية، تنتعش اشياء كثيرة لا يبررها عقل ولا تبررها شفافية. فالكهرباء تأتي ساعة تشاء وترحل بغتة من دون استئذان لأن لبنان يحيا في الزمن اللامعقول، حيث كل شيء معقول. انها وسيلتك الوحيدة المتاحة، لتقتنع بان العيش من دون كهرباء في القرن الحادي والعشرين، امر ممكن في مسرحية لبنانية لا تنتهي فصولها ولا ظلماتها.