والمسلمون (يحتفلون بالمسيح) بطريقتهم الخاصة: الدائمة لا الموسمية

TT

بيننا ـ نحن المسلمين ـ وبين (أهل الكتاب) وشائج وجسور علاقة منها ـ مثلاً ـ: الإيمان بوجود الله، وأنه سبحانه أنزل كتبا وبعث رسلا.. ومن خلال هذه (الأسس المشتركة) خاطب القرآن أهل الكتاب.. ونقصد بأهل الكتاب ـ ها هنا ـ: اتباع المسيح عيسى بن مريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ أ ـ لأن الاحتفال بميلاد المسيح يخصهم ب ـ لأن اليهود ـ وهم القسم الثاني من أهل الكتاب ـ: خارج السياق من حيث أنهم لا يؤمنون بالمسيح. ولا يحتفلون ـ من ثم ـ بميلاده: في أي صورة من الصور ولكن احتفل المسيحيون ـ ولا يزالون يحتفلون ـ بميلاد المسيح: النبي العظيم، وأحد أولي العزم من الرسل، فإن المسلمين (يحتفلون) به: بطريقتهم الخاصة التي هي (منهج كامل) يجعل احتفاءهم واحتفالهم به (دائما): لا موسميا، إذ هو احتفال مطرد: عقدي إيماني معرفي عبادي خلقي لا يعتريه انقطاع زمني، ولا فتور روحي أو فكري.

ومن صور هذا الاحتفاء والتقدير والتعظيم لسيدنا المسيح عيسى بن مريم في القرآن المجيد:

1ـ صورة إيمان المسلمين بمعجزة (حمل) المسيح: «واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا. فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا. قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا. قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا. قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا. قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمراً مقضيا».

2ـ صورة إيمان المسلمين بمعجزة الميلاد والنطق في المهد: «فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا. يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا. فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا. قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا. وجعلني مباركا أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا. وبرا بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقيا. والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا».

3 ـ صورة إيمان المسلمين بمعجزات شتى جرت على يد المسيح بإذن الله: «ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل. ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين».

4 ـ صورة إيمان المسلمين بنجاة المسيح من مكايد أعدائه وهي نجاة تمثلت في أن ـ الله عز وجل رفع المسيح إليه: «وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وان الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا. بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما».

5ـ صورة إيمان المسلمين بـ(الإنجيل) الذي أنزله الله جل ثناؤه على نبيه ورسوله عيسى بن مريم:

أ‌ـ «نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل. من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان».

ب ـ «وقفينا على آثارهم بعيسى بن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين».

جـ ـ «وإذ علّمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل».

د ـ «ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع».. (الإنجيل هنا: مرجعية للمسلمين في التعرف على صفات محمد وأصحابه)!!.

وتخصيص الإنجيل بالإيمان: فرع من الإيمان الأعظم ـ عند المسلمين ـ بالكتب كافة التي أنزلها الله ـ تقدس في علاه ـ على الأنبياء والمرسلين أجمعين: «آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله»..

وليس يصح إيمان مسلم بالقرآن الذي نزل على محمد حتى يؤمن بالإنجيل الذي نزل على عيسى.. لماذا؟.. لأن القرآن جاء مصدقاً للإنجيل: «نزّل عليك الكتاب مصدقاً لما بين يديه من التوراة وأنزل الإنجيل»، ولأن المسلمين ملزمون ـ عقديا ـ بالإيمان بأي كتاب نزل من عند الله بإطلاق: «وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب».. أي كتاب فهل هناك ـ فوق كوكب الأرض ـ من يحتفي بالإنجيل ويحتفل به: احتفال اعتقاد وإيمان ويقين وتصديق مثلما يحتفل المسلمون.

وهذه المضامين والمفاهيم والعقائد والمعارف التي تلزم المسلمين بالاحتفال والابتهاج بالمسيح عيسى بن مريم ـ حملا وميلادا ومعجزات أخرى وإنجيلا ونبوة ورسالة ـ ليست مجرد (معرفة ذهنية)، بل هي منهج (علمي إيماني تطبيقي) يتبدى ـ أبدا ـ في تلاوة القرآن: في سور آل عمران والمائدة ومريم ـ على سبيل المثال ـ كما يتبدى في تلاوة الآيات ـ المعظمة للمسيح المحتفية بمقامه ـ في الصلوات اليومية التي يؤديها المسلمون.. ويتبدى كذلك في تعليم وتعلم (أركان الإيمان) لصغار المسلمين وكبارهم.. فمن هذه الأركان: الإيمان بالرسل السابقين.. ومنهم سيدنا عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم.

والسياق الآنف كله ينبغي أن يتخلل جهود (التفاهم) بين المسلمين والمسيحيين في العالم، فليس من مناخات التفاهم، ولا من وسائل وأساليب نجاحه: أن يظل اتباع المسيح يظنون أو يعتقدون ـ من هذا المصدر أو ذاك ـ: أن المسلمين أعداء للمسيح، أو كفار به، أو لا يقدرونه حق قدره، أو لا يطوون قلوبهم على محبته. فهذا ظن خاطئ من جهة، وظن عائق للتفاهم الجاد الصدوق من جهة أخرى.

ولـ(العقلانية الحقة) مكانها ـ ومكانتها ـ في التفاهم الرفيع، والتقدير المتبادل، وفي الخروج من ظلمة التعصب إلى نور التسامح..

ومعنى العبارة السابقة ـ بالضبط ـ هو: أن يقدر المسيحيون نبي الاسلام، ان لم يكن تقدير ايمان به: نبيا رسولا (فالايمان القلبي نتيجة الاقتناع العقلي)، فلا أقل من أن يكون تقديرا انسانيا عقلانيا أخلاقيا، وهو تقدير يقتضي الاحترام، ويكف الالسنة والأقلام عن الاساءة.

فلو أن أكبر وأنجح الشركات الامريكية والاوربية للعلاقات العامة: احتشدت جميعا ـ في تعاون وثيق ـ وجندت امكاناتها البشرية والفنية والمادية من أجل (التعريف الطوعي المجاني) بنبي الله عيسى بن مريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أجمل صورة.. فماذا تقول الأسرة الانسانية عن هذا الفعل؟.. وبم تصفه؟ تصفه ـ بلا ريب ـ بـ(سعة الأفق).. و(رقي العمل غير الربحي)، و(الوفاء العظيم للمسيح الجليل).. لئن كانت هذه (خطة متخيلة)، فإن هناك (حقيقة) تفوقها ـ بملايين الدرجات ـ في كثافة التعريف بالمسيح، وعمق مضمونه، وصدق أسلوبه، وحميمية روحه، وطول مداه.. وهذه الحقيقة ـ الدينية والتاريخية والانسانية والاخلاقية ـ هي ان نبي الاسلام محمدا بن عبد الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ جاء بكتاب احتفل وابتهج بالمسيح وعظمه تعظيما.. ولم يكن هذا الابتهاج (برنامج) علاقات عامة يكتنفه من العجز والتقصير ما يكتنفه، وانما جرى الابتهاج والتعظيم بـ (النص القرآني): المعصوم من الخطأ والتقصير.. ثم لم يكن الاحتفاء والتمجيد محصورا في حملة محدودة بأسبوع أو شهر أو سنة، بل امتد منذ نزول الوحي على النبي محمد في القرن السادس الميلادي والى قيام الساعة.

ما وظيفة العقلانية المسيحية الحقة تجاه ذلك كله؟

وظيفتها ان تقدر لنبي الاسلام هذا الموقف ازاء أخيه العظيم الحبيب المسيح عيسى ابن مريم.

فإن من شأن العقلاء الأخلاقيين: أن يحترموا ـ أيما احترام ـ من يحتفي بأكابرهم ورموزهم ويثني عليهم ويؤمن برسالتهم ويعرف العالم بهم.