تأملات نهاية العام من سرير المستشفى

TT

فوجئت بنفسي أودع 2008 مع قرائي الإنجليز والعرب بطريقة لم تخطر ببالي يوما. ينتهي العام الصحفي فى منتصف ديسمبر برفع جلسات البرلمان بمناسبة الأعياد.

وتنطلق نصائح رجال الدين بأنها مناسبة روحانية لتذكر الخلق بمعجزة ميلاد السيد المسيح عليه السلام، والتأمل في آثام النفس البشرية وعمل الخير، بدلا من التهافت على السلع الاستهلاكية. اجبرت الأزمة الماليةِ الكثيرين على اتباع النصائح الدينية بتجنب هدر المال؛ بينما إعلانات التلفزيون عن تخفيضات تبلغ 80% عشية 25 ديسمبر توقظهم من تأملهم الروحاني (لماذا تتجاهل الزوجات بديهية التساؤل عن الثمن «المعقول» للسلعة إذا كان تخفيضه إلى الخمس لا يزال يحقق ربحا للمحل؟).

ومنذ اعتراف «بابا نويل» بي ككيان مستقل بقدرتي على شراء الهدايا من عرق جبيني وأنا أكتب بطاقات التهنئة بخط يدي وأرسلها كلها «دفعة واحدة»، في اليوم الوحيد الذي أخصصه لشراء قائمة هدايا آخذة في الانكماش باختيار الله لأصدقاء العمر المخلصين بمرور السنين (الصديق المخلص هو من يخلصك من مأزق لا تحمد عقباه كشهادته مثلا أمام المدام بما يقنعها بفك أصابعها من حول رقبتك).

أكره زحام محلات الـ Department Stores ، في الأيام العادية فما بالك بتوتر موسم التسوق الأكبر، الذي يفوق توتر تغطيتي لأكثر من عشر حروب على مدى سنوات عملي الصحفي؟

لذا أختار اقرب المحلات (هارفي نيكولز غالبا لقربه من مقر صديقي العزيز خالد الدويسان عميد السلك الدبلوماسي في لندن وسفير الكويت لاستعين على خوض التسوق بقهوته وحديثه الممتع).

عجزت هذا العام عن إرسال بطاقة واحدة أو شراء هدية بسبب مفاجأة طبية خارجة عن إرادتي.

رفضي وضع تلفزيون بغرفتي بالمستشفى أتاح لي فرصة لا تقدر بثمن لتفتيش الذات والتأمل في حكمة الخالق.

فمهما رسم الانسان وخطط للمستقبل، لن يضمن قدرته على التنفيذ. الإنسان، بكل ما حقق من قدرة تكنولوجية لا يزيد عن وزن حبة رمل في كون هائل معقد التركيب لم يفهم إلا بعضا من قشور أسراره.

ورغم كل الترتيبات أجد نفسي (وللاسبوع الثاني) مقيدا إلى فراش المستشفى عقب جراحة دقيقة في العمود الفقري (تعقدت بتمزق غشاء الغلاف السحائي عند التقاء جذر العصب الرئيسي للرجل بالحبل الشوكي).

كنت في حفل اليوم الوطني لمملكة البحرين مساء 15 ديسمبر عندما تلقيت مكالمة من قسم جراحة الأعصاب (عقب فحص الرسم الكهرومغناطيسي لعمودي الفقري) يطلب عودتي فورا لإجراء جراحة عاجلة.

مكالمة واحدة قلبت الخطط رأسا على عقب، ألغى الدكتور وفيق مصطفى (رئيس التجمع العربي بحزب المحافظين) ارتباطاته ليصحبني للمستشفى ولم يغادره إلا بعد منتصف الليل اثر اطمئئانه على الرعاية الطبية من الناحية المهنية.

وغير قادر على السفر لتغطية قمة مجلس التعاون الخليجي في مسقط كما خططت (أملي مقالي في الثانية صباح الأربعاء 24 ديسمبر على «فاعل خير» يجيد العربية يعمل بالمستشفى تطوع لدقها على «اللاب توب» بعد انتهاء ورديته) وأنا قيد أغلال أنابيب مغروسة بإبر سميكة في عروقي ممنوع من الحركة كمومياء مصرية ـ الفارق ان ثمن مومياء (مسروقة) يفوق الاف الجنيهات بينما سيكلف جثماني الورثة مالا وجهدا للتخلص منه.

ولله في تخطيطه أسباب ربما ندركها في حياتنا او تفسرها أجيال قادمة.

أعتمد في رقدتي على ممرضات (من مختلف انحاء المعمورة) على كل حاجة حتى شربة الماء، (لا أفهم سر وضعهن بعيدا عن متناول مريض مقيد).

امتناني للممرضات كامتناني لمرسلي عشرات بطاقات التمني بالشفاء مليئة بأدعية وصلوات من الأديان السماوية الثلاثة والعقائد الأخرى، من قراء أعزاء ـ عرب وإنجليز (وأشكر من اجتهد لمعرفة عنوان المستشفى) ومن باقات وسلال زهور (منعت المستشفيات البريطانية دخول الزهور لتقليل نقل العدوى فتطوع بعض العاملين بنقلها والهدايا لملجأ عجزة مجاور)، وهدايا من سفراء عشرات الدول (تجاورت هديتان ببطاقتين مختلفتي اللغة من سفارتي بلدين في حالة حرب!).

احزنني عجزي عن إرسال بطاقات الأعياد والهدايا للاصدقاء، فعوضني سجن سرير المستشفى بإحساس العشرات بآلامي، وبعرضهم المساعدة، وتيقنت بأن البسطاء الفقراء أكثر عطاء وكرما من المليونيرات (بتناسب الثروة).

كان الموبايل اكثر من وسيلة ربط لدفء شعور الأصدقاء عبر البحار برسائل sms اثارت الابتسام، وبعضها الالام (من جذب الضحك غرز الجرح في ظهري)، وأداة تأكيد بانني مازلت على قيد الحياة وجزءا من سيرها المعتاد، بشكاوى الهانم بعيدة المدى هاتفيا، او التحقيقية كـ«صوتك يبدو منشرحا على غير العادة.. من معك في الغرفة ؟» (ولو كان الزائر الوهمي ملكة جمال العالم فهل حالتي الصحية تدعو لقلق الزوجة؟)

او شكواها من اعداد طعام الغداء للولدين (احتفظت لنفسي بالتساؤل عما اذا كان التوصيف الوظيفي للامومة قد تغير منذ دخولي المستشفى) او بمشقة تغليف «هدايا اكثر من اللازم».

أما سبب تكرار شرائها «الاكثر من اللازم» على بطاقاتي الائتمانية المرشحة لكتاب غينيس للارقام القياسية فسؤال اقلعت عن طرحه منذ سنوات لأسباب تتعلق بالصحة والأمن الشخصي. الهدايا عبارة عن آخر الابتكارات الالكترونية وتقليعات الموضة ستحملها الهانم لأسرتها والاضيشها ( كلمة مصرية تعني حاشية لا يعلم احد فائدتها الا صاحب/ة الالاضيش انفسهم/ن). معظم متلقي الهدايا التي عملت بمجهود الحمار والفيل معا طوال العام لدفع فوائد اقتراض اثمانها، لا اعرفهم. أما الهدايا القليلة المصوبة نحوي فمن النوع غير القابل للاستعمال ( كـ«البلوفر» التقليدي سنويا رغم أني لا ارتدي البلوفرات ابدا، فتتحول الى تبرع لاوكسفام، او الكترونيات «لا يفهم جيلي تشغيلها» حسب قول الاولاد الكبار، من زيجات سابقة، كمبرر منطقي للاستيلاء عليها بدون منحي فرصة وضع فرضيتهم محل التجربة).

كل اقتراح «عملي» قدمته عبر الموبايل بما يمكن ان يساعد الهانم المصون على اجتياز محنة تغليف «الاكثر من اللازم» رفضته بسرعة إسقاط الـ F-16 للميج 15 بصاروخ سايد وايندر، بدعوى انني لست في كامل قواي العقلية والدليل ابتهاج وتفاؤل الشباب في صوتي، غالبا بتأثير المورفين المستمر، أي انني لست العجوز الذي عهدته متعكر المزاج دائم الشكوى من الجيل الجديد، ومن ثم فأية نصيحة اقدمها لا يصح لسيدة تحترم نفسها اتباعها.

وربما ينحاز القراء لمنطق الهوانم، او للعجوز عندما يتمنى لهم عاما جديدا سعيدا، بدون ان يعرف من أين سيبعث بالمقال القادم، ودعاؤكم ألا يكون ايضا من سرير المستشفى، والقرار للأطباء والمشيئة لله.