مجرد رومانسيات فكرية

TT

الرومانسية الفكرية لا تختلف في جوهرها، مهما تعددت اتجاهاتها وتياراتها، لا يختلف في ذلك الرومانسي الدنيوي أو الديني، الإسلاموي او القوموي او الماركسوي، فالكل ينطلق من ظرف الزمان «كان» ويجعله حكماً على ما عداه، بحيث أن أي انحراف متصور عن ذلك الظرف، يعتبر خروجاَ عن المسار الصحيح في ذهن الرومانسي الفكري. والرومانسية الفكرية في هذه الحالة، تشكل عصاباً فكرياً، يجعل من صاحبها شخصاً لا يرى العالم إلا من خلال نظارة كالحة السواد، لا تسمح للخارج أن ينفذ، ولا للداخل أن يخرج كما هو، من دون إضافة شيء من اللون له، فيبقى كل شيء حبيس الذات، وحبيس ذلك الظرف المنتقى. وهذا الظرف المنتقى لا يُنظر إليه على أنه جزء من التاريخ، بل هو شيء متعال يُحكم به على التاريخ ولا يحكمه التاريخ. فالإسلاموي مثلاَ، يفصل فترة حكم عمر بن عبدالعزيز، أو غيره، عن مسار التاريخ ويجعلها حكماَ عليه بدل أن تكون جزءاَ منه، والقوموي يفعل ذات الشيء مع الفترة الناصرية مثلاً، او الماركسوي المقدس للستالينية وأيامها، كل أولئك يلتقون في نقطة واحدة، رغم أن كل تيار يلعن الآخر، ويصمه بكل علة.

من الملاحظ في العالم العربي أن مثل هذه الرومانسية الفكرية مهيمنة على العقل العربي، بحيث أن المراقب لساحة هذا الفكر من الممكن أن يُصاب باليأس من إمكانية أن يعود هذا العقل إلى العقل. وكي لا نفهم خطأَ، رغم القناعة أن من يريد أن يفهم خطأَ سيفهم خطأَ بغض النظر عن المطروح من النص، أقول إنني لست ضد أي طرح كان، فنحن مسلمون رغم طروحات الإسلامويين، ونحن عرب رغم طروحات القومويين، ونحن «نحاول» أن نكون موضوعيين وعلميين رغم طروحات الماركسويين. المشكلة في كل هؤلاء ليست في كونهم أصحاب رأي، ولكن في كونهم معزولين عن الواقع المعاش، الذي هو لب التاريخ الذي يرفعون رايته، من دون محاولة جادة لفهمه. فالقوموي مثلاَ يرفع راية «القومية العربية» وشعار «الوحدة العربية»، ولكن المشكلة تكمن في أن القوموي، يفترض أن «العروبة» حكر عليه فلا يميز بين أن تكون «عربياَ» وبين أن تكون «عروبياَ»، وبين أن تكون «قومياَ» وبين أن تكون «قوموياَ»، وبين أن تكون «وحدوياَ»، وبين أن تكون بعثياً أو ناصرياَ، وذلك كما يفعل الإسلاموي بالضبط حين تعامله مع الإسلام. المشكلة هنا، بكل بساطة، هي سيادة الكلمات من ناحية، وذاك «التسامي»، الذي نمارسه حين نتعامل مع واقع الحال، فنعزل عنه ما يجب أن يكون منه، ونفرض عليه ما هو غير منتم إليه.

لو سألت أي عربي هل هو مع «مبدأ» و«فكرة» الوحدة العربية، لما وجدت من يقول لا، ومن يقول لا لديه تحفظات لا تصل إلى ذات المبدأ على عمومه. ولكن، إذا هبطنا من ذاك المستوى المجرد، مستوى المبدأ البحت، إلى تفاصيل الحياة، ومن تطلعات المثقفين إلى حاجات المعوزين، لوجدت أن مثل هذه «المفاهيم» تبقى مجرد مفاهيم ولا تشكل هاجساَ مقلقاَ لهؤلاء المعوزين، وهم أكثرية القوم، وهم من تقوم الحركات والدعوات والانقلابات باسمهم ومن أجلهم.

قد يقول قائل إن ذلك شيء طبيعي، فالجماهير في النهاية لا تعرف مصلحتها، فقط هم المثقفون والمصلحون الذين يعرفون الصورة العامة، وبالتالي هم من يُفترض فيهم قيادة الجماهير. إذا أخذنا بهذا المنطق، فكيف نفسر هذا الحديث الدائم عن إرادة الجماهير وحركة الجماهير ونحو ذلك من أمور؟ قد يُقال أن المقصود هو أن المثقف يُعبر عما لا تستطيع الجماهير التعبير عنه. وليكن، ولكن يبقى سؤال مؤرق: عن أي مثقف أو مصلح نتحدث؟ فالثقافة فيها آراء وتيارات واتجاهات وغير ذلك، فأي اتجاه ثقافي يعبر عن الجماهير، إذا كانت الجماهير ذاتها غير قادرة على معرفة نفسها، في ظل تعدد تعريفاتها؟ فالجماهير التي كانت في عقل ماركس وهو يكتب، ليست هي ذاتها جماهير ماو، او عفلق، أو عبد الناصر، أو حسن البنا، أو سيد قطب، وهي ليست الجماهير التي نقابلها في الشارع والسوق.

وبالعودة إلى موضوع الوحدة العربية، أو الإسلامية، يمكن القول إن المبدأ لا خلاف عليه، فالمزايا السياسية للكيان الكبير لا تحتاج إلى إيضاح، خاصة في مثل العصر الذي نعيشه. ولكن الذي يجب أن يكون مثار نقاش هو نوع هذه الوحدة، ونوعية الحياة فيها، ووضع الإنسان في مثل هذا الوضع. إن وحدة تأتي وفق تصورات «الأخ»، أو طموحات «المهيب»، أو أوهام «الزعيم»، هي وحدة لا حاجة لنا بها. فالوحدة ما هي إلا «وسيلة» وليست غاية بحد ذاتها، وهذا هو مصدر تلك الضبابية في الطرح القوموي والإسلاموي والماركسوي حين القول بمثل هذه المفاهيم وغيرها مما هو متشابه، إذ أنهم يتعاملون معها بصفتها غايات بحد ذاتها، رغم الاختلاف الآيديولوجي بين هذه الملل والنحل، ولكن يبقى العقل واحداً. فمجرد وجود كيان كبير لا يعني شيئاً بحد ذاته، ولا يعني أنه الأفضل دائماَ، ولكنه يكون أفضل حين يوفر مزايا حياتية مميزة للإنسان المحسوس، أو لنقل الفرد.

قد يُقال إن نظام الحكم لا يهم، إذ قد يتغير إلى الأفضل فنكسب الوحدة ونتخلص من نظام الحكم. ولكن السؤال هو: هل نترك مصيرنا رهن «قد» وندخل في تجربة لا ندري حقيقة إلى أين تنتهي؟ فروسيا خسرت سبعين عاماَ من عمرها في عصر لا يحتمل الخسارة، لأنها ركزت على الدولة قبل الفرد، فخسرت الاثنين معاَ، بينما لو كان الفرد هو الهدف وهو الغاية، لبقيت الدولة وانتعشت، وقد كان «خالد الذكر» جوزيف ستالين، ذا سمعة طيبة في عالمنا العربي والإسلامي، ليس عند الشيوعيين فقط، ولكن عند القومويين والإسلامويين ايضاَ، وارجعوا إلى كتابات الشيخ حسن البنا، ففيها فصل الخطاب.

لقد حاول نابليون توحيد أوروبا، وحاول هتلر بناء رايخ الألف عام، وحاول الرومان والمسلمون توحيد العالم في ظل امبراطورية واحدة، ولكن كل ذلك انهار. أما الوحدة الأوروبية الحالية، أو ولايات أميركا المتحدة، فبقيت راسخة في النهاية لأنها ليست سجينة ذهنية الدولة في مقابل الإنسان، ولكن بعد موافقة ذات الإنسان الذي يحدد ما إذا كانت الدولة تضيف شيئاَ إلى شروط الحياة، أم أنها مجرد لعبة من ألاعيب الزمان، وهدف بحد ذاتها. ومشكلتنا في عالم العرب هي أننا جماعة تقودها الكلمات، وتضحي بنفسها من اجل الكلمات، بغض النظر عن المضمون الفعلي لهذه الكلمات.

مشكلة العرب المزمنة هي أنهم لا يريدون، أو غير قادرين على التعامل مع القضايا المحسوسة، ولذلك تجدهم يهربون إلى تلك القضايا الكبيرة التي تريحهم من عناء البحث عن حلول للقضايا الحقيقية التي تفرض نفسها، من دون أن تجد لها حلاً. تحرير فلسطين لا يكون إلا بالوحدة العربية، وإلى أن تأتي الوحدة، بقدرة قادر، ما علينا إلا الانتظار والشجب وصب اللعنات على كل أحد وأي أحد، وبذلك نكون قد أدينا الواجب وارتاحت الذوات منا، ونمنا قريري العين. وتنمية مجتمعاتنا غير ممكنة لأن أميركا، ومن قبلها بريطانيا وفرنسا، وقبل ذلك البرتغال وإسبانيا، وقبل ذلك الفرس والأتراك، وقبل الجميع روما وأثينا، ثم جاء دور بني إسرائيل، كل هؤلاء يقفون لنا بالمرصاد ويتوارثون المؤامرة ضدنا جيلاَ بعد جيل، ولذلك لا قيام لتنمية أو تطور أو نهضة إلا بزوال كل هؤلاء، ولا يزول هؤلاء إلا بقيام دولة الوحدة أو الخلافة أو نحوهما. ولن تقوم دولة الوحدة لأن هؤلاء يقفون لها بالمرصاد، وعلى ذلك لا بد من زوالهم لقيام وحدة لا بد منها لحل كل مشاكلنا المعلقة والكائنة وغير الكائنة. وهكذا ندخل في متاهة أرانب لا أول لها من آخر. نصل إلى هذه الخاتمة وقد ارتاحت الذات منا، ولسان الحال يقول: «ما باليد حيلة» وننام مرتاحي الضمير، قريري العين، في انتظار غودو الذي لن يجيء، وليس له أن يجيء. نجتر ذكريات الفردوس المفقود، والوطن السليب، وأيام صلاح الدين، وساعة هارون الرشيد في يد شارلمان المتعجب، في عالم بلوري من الرومانسية الحالمة والحنين المخدر، ونحن لا نزال منتشين بكتاب: «ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين»، و«شمس العرب تسطع على الغرب»، وذاك شيء جميل، مع أن السؤال يجب أن يكون «ماذا خسر المسلمون برفضهم للعالم»، وشمس اليوم تسطع على الغرب. كل معادلاتنا مقلوبة، وكل اتجاهاتنا معكوسة، ولا خروج من المتاهة إلا بمراجعة كل المعادلات ونقد كل الذات، وإلا فإن الخوف أن يأتي يوم نكون فيه قوقعة في متحف للتاريخ، أسوة بشعوب قبلنا رفضت التاريخ فرفضها التاريخ، وتعالت على الواقع فسحق هامتها القدر، فالقدر، وإن كان حتماً، لا يحترم إلا الفاعلين.. ودمتم فاعلين.