قصة القانون

TT

في خزانتي كتاب موضوع منذ ربع قرن لم اشعر مرة برغبة في ان ابدأ بقراءته. جلدته حمراء قديمة وصادر اوائل القرن الماضي لكن لا الناشر ولا المؤلف يحدد تاريخ الصدور. المؤلف هو المحامي الاميركي «جون ميز» وعنوان الكتاب «تاريخ القانون» ويعني طبعا القوانين الغربية من ايام روما.

يقول المؤلف ان الانسان استند في سن قوانينه إلى طريقة الحياة في عالم النمل. واحيانا الى عالم النحل. ولم اكن اتوقع انه لا بد من العودة الى قراءات المدارس الابتدائية لكي نعرف كيف صاغ هذا المخلوق العبقري القانون الذي سيخالفه ويقفز فوقه. اليس هو «الحيوان الناطق» خلافاً لكل الحيوانات الاخرى؟ لكننا نشعر بأسى ان النمل، بأنواعه، حتى الذي يسمى «النمل المجنون» ذو الجناحين، اكثر تقيداً بالقانون والاداب والقواعد من الانسان. النمل مخلوق ذو روح جماعية لم يستطع البشر تقليده او مجاراته. لا يؤذي ولا يعتدي ولا يغزو بل يتكاتف ويعمل في صمت وكلما تهدم بيته بنى بيتاً آخر ولا ينتحر يأساً ولا يريد ان يجمع 10 ملايين دولار في يوم واحد ولا يعمل بالفساد ولا يسافر الى دبي ليقتل سوزان تميم ولا يطارد حساباتها في البنوك فيما الدموع تملأ عينيه وتملأ الصحف. حاول الانسان ان يقلد النمل في القانون لكنه ظل مخلوقاً خارجاً على القانون، لا يرى حياته الا في موت غيره، ولا يرى كفايته الا في فقر سواه، ولا يجد طمأنينته الا في ازالة كل من عداه. لا يمكن للنملة ان تعيش لنفسها او منفردة او خارج الجماعة. كم مرة رأينا نملة تنوء تحت قشة فتهرع الى مساعدتها نملة ثانية. او ثالثة. او عاشرة. نحن عالمنا عبيد واسترقاق. والتعاونيات عندنا تعاونيات بالاسم وسرقة في الواقع. ولا تعرف بين النمل ما هو الصف الاول وما هو الصف الثاني لكن في الاحتفالات اللبنانية يطلق الرصاص من اجل ضمان المقعد في الصف الاول، سواء في عرس او في جنازة او في توزيع جوائز «كلينكس».

دفعني بعد كل هذا الوقت الى قراءة «قصة القانون» ما شاهدته في الايام الاخيرة على طرقات لبنان من حملة الجنسية اللبنانية. كل سائق في حاجة الى عشرة دركيين. ومع هذا سلامتك. ولا اعرف من اي اعصاب جبل رجال السير. لكن عندما اراهم يدخنون سيجارة او يتركون كل شيء ليتحدثوا بالجوال، اعرف انهم اصبحوا على وشك الانتحار. او الاستقالة. او الهجرة.

الشيء الوحيد من النمل في لبنان هو كثرة السيارات. والتصاقها ببعضها البعض، ذهابا وايابا. لكن النمل لا يشتم ولا يزمر ولا يرمي الورق والزجاج من النوافذ. تشبع الطبيعة قوانينها منذ البدء في توازن لا يحده للعقل البشري. القمر في مداره والمريخ في مكانه وملايين النجوم تلمع كل يوم في مجراتها مثل قطيع من سراجات الذهب. وفي لبنان تتغير حركة السير من فوق الطرق الى تحتها ومن فوق الارصفة الى فوق الاعمدة. ويزمرون. يزمرون كأن السيارة التي امامهم قررت النوم في وسط الطريق.