هل مات صراع الحضارات مع صموئيل هنتنغتون؟

TT

إنه لمن اللافت للانتباه حقاً أن يسيطر المثقفون الأميركان على الساحة التنظيرية بعد سقوط الشيوعية وانتصار أميركا المطلق وتحولها إلى القوة العظمى الوحيدة في العالم عام 1989. فالكتابان اللذان راجا اكثر من غيرهما يعودان الى اثنين من اساتذة الجامعة الاميركية: الأول هو فرانسيس فوكوياما والثاني هو صموئيل هنتنغتون الذي غادرنا الى رحمة ربه قبل بضعة أيام. في السابق كان مثقفو اوروبا وفرنسا تحديدا كسارتر وفوكو وسواهما هم الذين يسيطرون على الساحة الفكرية العالمية. ولكن منذ عشرين سنة تقريبا انقلبت الآية.

مهما يكن من أمر فان فوكوياما الصغير السن لأنه من مواليد 1952 هو تلميذ لأستاذ هارفارد الشهير هنتنغتون. ولكن التلميذ سبق استاذه الى الشهرة العريضة عندما نشر كتابه: نهاية التاريخ والانسان الأخير عام 1992. والشيء الذي ينساه الكثيرون ان كتاب هنتنغتون عن صدام الحضارات ما هو إلا رد فعل على كتاب فوكوياما المذكور. والواقع انه صدر بعده بأربع سنوات فقط أي عام 1996. فوكوياما متفائل وأستاذه هنتنغتون متشائم. كيف؟ الأول يعتقد بان مستقبل البشرية أصبح زاهرا ومضمونا بعد سقوط الشيوعية لأنها ستسير كلها على خطى الغرب ونظامه الليبرالي الديموقراطي. فلا يوجد نموذج آخر صالح للبشر اكثر منه. وبالتالي فكل دول العالم سوف تصبح ليبرالية دستورية تعددية سياسيا يوما ما والمسألة مسألة وقت ليس الا. وعندئذ تنتهي الحروب من العالم ويعم الوئام والسلام لان الأنظمة الديموقراطية الحرة لا يمكن ان تتقاتل مع بعضها البعض. وحدها الأنظمة الديكتاتورية تميل الى العنف والعدوانية.

ضد هذه النظرية المتفائلة جدا نهض صموئيل هنتنغتون العابس المتشائم. ففي رأيه ان كلام فوكوياما تبسيطي وواثق اكثر من اللزوم بالطبيعة البشرية. فالبشر ليسوا ملائكة الى مثل هذا الحد والحروب لن تنتهي من العالم وليس مؤكدا ان الجميع سيسيرون على طريق الحرية والديموقراطية. بل على العكس فان المستقبل هو لصدام الحضارات. وعندئذ بلور نظريته الشهيرة وقال بان الصراعات في العالم بعد الحرب الباردة لن تجيء عن طريق الاختلافات الايديولوجية بين الامم كالشيوعية والرأسمالية والقومية والفاشية الخ.. وإنما عن طريق الاختلافات الثقافية والدينية بين الحضارات. وهنا قسم العالم الى ثماني كتل حضارية كبرى هي: الكتلة الغربية التي تضم اميركا الشمالية واوروبا الغربية، وكتلة اميركا الجنوبية اللاتينية الاسبانية، وكتلة العالم الإسلامي، وكتلة افريقيا السوداء، وكتلة البلدان السلافية الارثوذكسية، وكتلة العالم الآسيوي الذي يضم ثلاث كتل في الواقع هي الهند والصين واليابان وحتى كوريا وفيتنام.

وتنبأ بان الصراع الأعظم سيكون بين العالم الغربي والعالم الإسلامي نظرا للتضاد الكامل في القيم. ثم ثارت عليه الثوائر وانهالت الانتقادات من كل حدب وصوب. ولكن لنتوقف هنا لحظة ولنتساءل: أما آن الاوان لكي ننصفه ونعطيه حقه وبخاصة بعد ان مات؟ ألم تتحقق نبوءته بعد خمس سنوات فقط على صدور كتابه؟ كتابه الذي ترجم الى 39 لغة صدر عام 1996 كما قلنا وضربة 11 سبتمبر حصلت عام 2001 أي بعده بخمس سنوات فقط. ألم تكن ضربة 11 سبتمبر ترجمة مباشرة للكتاب؟ فلماذا نشتمه اذن؟ ألم يسبق الحدث اكثر من أي مفكر آخر؟

ولكن ينبغي ان نذهب في التحليل إلى أبعد مما ذهب إليه. فهو مفكر سياسي في نهاية المطاف وليس فيلسوفا عميقا وان كان قد أخذ شهرة واسعة. لا يمكن ان نقارنه من هذه الناحية مثلا مع مفكر آخر كالالماني يورغين هابرماس ذي الاطلاع المعرفي الشاسع الواسع. ينبغي القول بان سبب العداء المستحكم بين العالم الإسلامي والغرب يعود إلى عدة عوامل لا الى عامل واحد فقط. الجميع يركزون على الحزازات التاريخية والحروب الصليبية والفترة الاستعمارية الخ..ومعهم الحق. ولكن لا أحد يعمق التحليل أكثر لكي يصل الى عمقه الجوهري. سوف اقول باختصار سريع ما يلي: ان العالم العربي والإسلامي معه يعاني من قطيعة كبرى معاكسة تماما لتلك التي يعاني منها الغرب. نحن انقطعنا عن الفلسفة منذ موت ابن رشد في نهاية القرن الثاني عشر الميلادي. وحشرنا أنفسنا في السلفية الضيقة والتصوف والتدروش والتكرار العقيم والاجترار. باختصار لقد مات العقل وانتصر التدين التقليدي كليا. وكان ان حصدنا بن لادن والطالبان والحركات الاصولية السنية والشيعية. واما هم فيعانون من قطيعة كبرى مع الدين بعد التنوير والثورة الفرنسية. لقد بتروا الدين بترا من حياتهم الاجتماعية والسياسية والاخلاقية وكل شيء. ولذلك اصبحنا عالمين متنابذين متضادين لا يلتقيان. وهنا بالضبط يكمن السبب العميق لصدام الحضارات والذي لم يفهمه صموئيل هنتنغتون. ليفهم كلامي جيدا هنا: اني لا أدعو الى عودة اوروبا الى الاصولية المسيحية وتدين القرون الوسطى! لا أدعو الى التراجع عن التقدم والتنوير والحداثة. ولكني أدعو الى انقاذ افضل ما أعطاه الدين، الى جوهر الدين: أي التنزيه والتعالي الرباني والقيم الروحية والاخلاقية العليا.