غزة الشهيدة أسيرة مقاومة مُرْتَجَلَة

TT

لا فائدة من مطالبة إسرائيل بضبط النفس والكف عن العدوان. لا فائدة من التوجه إلى أميركا بوش وأوباما للضغط على إسرائيل. هناك آلية حاسمة ومتاحة للجم إسرائيل. باختصار، الحل في أوروبا.

ليس المطلوب تعجيز أوروبا. ليس المطلوب أن تشن أوروبا حربا مستحيلة على إسرائيل. كل ما هو مطلوب أن تتخذ أوروبا تدابير تخفف من اعتماد اسرائيل عليها اقتصاديا وتجاريا. لو دخلتَ أي سوق استهلاكية ضخمة (سوبرماركت) في لندن وباريس وبروكسل وبرلين... لوجدتها تعج بالمنتجات الاسرائيلية. أوروبا وليست أميركا هي متنفس الحياة للدولة العبرية.

بعد فاجعة غزة، يستطيع النظام العربي أن يطالب أوروبا بموقف حاسم إزاء النزاع الفلسطيني الإسرائيلي. أوروبا متعاطفة مع الفلسطينيين، حكومات وشعوبا. النظام العربي يستطيع أن يتكلم مع أوروبا بلغة المصالح المتبادلة. إذا أرادت أوروبا حلا في فلسطين وسلاما واستقرارا في جنوبها، فلتضع حدا لتدفق الإنتاج السلعي الإسرائيلي على أسواقها. ذلك، في تصوري كافٍ لإقناع اسرائيل بإنهاء الاحتلال والتوصل الى تسوية سريعة مع السلطة الفلسطينية.

اسرائيل ليست مفيدة لأوروبا اقتصاديا. سوقها الاستهلاكية صغيرة بالمقارنة مع الأسواق العربية. العرب هم السوق الاستهلاكية الأولى لألمانيا وفرنسا وايطاليا. منذ أيام قليلة، علّقت دول مجلس التعاون الخليجي محادثاتها الاقتصادية مع أوروبا. في ذروة أزمة الرأسمالية المالية والاقتصادية، فأوروبا في حاجة للعرب اقتصاديا وسياسيا.

أنشأ ساركوزي اتحادا لأوروبا مع سبع دول عربية. هو يريد أن يتعاون معها في مكافحة الإرهاب، ووقف الهجرة السرية منها ومن أفريقيا إلى أوروبا. منذ أيام، حاضر عمرو موسى أوروبا في باريس. لم يضع أمين الجامعة العربية أوروبا أمام القرار الحاسم: هناك اتحاد سياسي واقتصادي في أوروبا قادر، لأول مرة في تاريخها، على اتخاذ قرار أوروبي موحد يتعلق بصميم المصلحة الجيوسياسية الأوروبية/ العربية المشتركة، قرار يخيِّر إسرائيل بين استمرار الاحتلال، واستمرار علاقة الحياة والموت للاقتصاد الإسرائيلي.

ربما كان عمرو موسى معذورا. هو لا يستطيع أن يطالب أوروبا بالحسم، إذا لم يحسم النظام العربي موقفه إزاء أوروبا. مشكلة عمرو موسى في أن العرب لا يتكلمون بصوت وقرار واحد، كما تبدو أوروبا اليوم. كلما تأخرت مصر والسعودية في لملمة ما هو متاح وممكن من إجماع عربي، غابت قدرة العرب على المبادرة، سواء في الوقوف أمام التدخل الإيراني لتمزيقهم، أو في وضع حد للعناد الإسرائيلي.

كلما تأخرت مصر والسعودية حاولت دول الأطراف الصغيرة والبعيدة التطبيع مع إسرائيل. لو كانت هناك استراتيجية عربية معلنة: لا تطبيع مع إسرائيل قبل إنهاء الاحتلال، لما تجرأت إحدى الدول على الدعوة علنا لإقامة تعاون أمني مع إسرائيل (!) وإيران. أية سذاجة سياسية تلك التي تطالب بالتنسيق الأمني مع إسرائيل، وهي التي تعتدي على أمن العرب وسلامهم وحياتهم؟!

من جانب آخر، أقول صراحة إن النظام العربي مهدد في أمنه واستقراره واستمراره، إذا استمر في التهاون والمسايرة مع القوى العربية التي تكيِّف مواقفها وسياساتها وفق المصالح الإيرانية، ثم تقدم نفسها وكأنها مدافعة وحريصة على المصلحة القومية العربية.

فاجعة غزة فرصة للنظام العربي لتحميل قادة وزعماء هذه القوى مسؤولية ما يحل بالعرب والفلسطينيين من هزائم ومآسٍ. خالد مشعل، مثلا، يتحمل المسؤولية المباشرة عن الفاجعة. فقد أمر قبل أيام قليلة أمارته الاخوانية في غزة بعدم الاستمرار في الهدنة والتهدئة مع إسرائيل، قاطعا الطريق على الوساطة المصرية بين حماس وإسرائيل.

تعليمات إيران التي ينفذها مشعل هي أوامر. ليس غريبا أن تشن إيران وسورية بشار وحزب إيران في لبنان حملة على مصر، في وقت تحاول مصر تجنيب غزة وحماس ويلات الصدام المسلح غير المتكافئ. سيَّرت المخابرات السورية التظاهرات أمام السفارة المصرية في دمشق للمزايدة على مصر في مطالبتها بفتح معبر غزة! فيما لم يسمح نظام الأسد الأب والابن بفتح جبهة الجولان، لإطلاق رصاصة واحدة على الاحتلال، على مدى 35 سنة.

قمة عربية؟ قمة لإدانة اسرائيل بالكلام والقرارات، ولتلميع حماس، ولاسباغ هالة البطولة والشجاعة على رؤوس زعمائها المهزومين؟! قمة لتلفيق موقف عربي «موحد»؟ أم قمة للمصارحة؟ قمة لتحديد مسؤولية زعامات وقيادات المواجهة غير المتكافئة، والمغالطة الغوغائية للتلاعب بعواطف الأمة؟

بات الرأي العام العربي أسير قوى وزعامات تستغل عواطفه الجريحة الغاضبة على إدارة أميركية جاهلة ومنحازة، وعاتبة على أوروبا لترددها وتخاذلها أمام صلف إسرائيل وعنادها، واستخدامها الإجرامي للتقنيات وللسلاح الأميركي والأوروبي ضد شعب عربي محاصر، شعب أسير «أبطال» من أمثال أسامة والظواهري ومشعل والزهار وحسن حزب الله...

تدني الثقافة السياسية لدى هؤلاء، يتجلى في غيبة التفكير الجهادي القادر على الربط بين فهم تطورات الموقف الدولي، ومتابعة تقلبات السياسية الإسرائيلية، واختيار الوقت المناسب للتحرك أو للتهدئة. حماس المتمردة على الشرعية الفلسطينية والمحَاصَرة في غزة تخطئ في الاصرار على الجهاد المسلح بصاروخ التنك، في عصر بات النضال السياسي هو المقبول والمعترف به عالميا.

ينطلق صاروخ التنك لتحرير فلسطين من النهر إلى البحر، فإذا به يرتد ليقتل المدنيين الفلسطينيين في بيوتهم، أو ليستقر على غير هدى بعيدا عن الهدف في الأرض المحتلة. قتل صاروخ التنك 12 إسرائيليا فقط على مدى اثنتي عشرة سنة. هل هناك عقول وتفكير بأن هذه المقاومة فاشلة، مقاومة غير متكافئة استشهد فيها المئات من أهالي غزة؟

سلطة جانحة ومجتزأة لن تحرر فلسطين. سلطة غير قادرة على تحليل المواقف الاسرائيلية هي التي أعطت وتعطي اليوم الزعماء والساسة الإسرائيليين الاستئصاليين الفرصة لسفك الدم الفلسطيني، ارضاء للناخب الاسرائيلي في موسم انتخابي تنافسي.

كان في مقدمة واجب زعماء حماس، في أجواء التصعيد والإلغاء المُبْتَسر للتهدئة والهدنة، توفير الوقاية ان لم تتوفر الحماية: منع المهرجانات الدعائية. عدم سوق المدنيين الى الساحات المكشوفة، للاستماع الى خطب الارتجال والتهريج والمزايدات الغوغائية لامثال الزهار وهنية والحيَّة، ولمشاهدة الاستعراضات الميليشيوية الانكشارية، من دون تقدير ووعي لطاقة عدو همجي على ارتكاب المجازر.

مشعل يأمر، من مخبأه في دمشق وطهران، زعماء حماس بالقيام بعمليات انتحارية. لو كان متحررا من الوصاية، لو كان حريصا على المصلحة الفلسطينية لاستغل الفرصة ليأمر بعودة السلطة المتمردة في غزة الى الوحدة الوطنية والسلطة الشرعية، في مقابل امتناع عباس عن الاستمرار في مفاوضة جثة أولمرت السياسية.

فاجعة غزة ايضا مناسبة لتذكير النظام العربي بأنه يخسر عامل الوقت لحساب ايران واسرائيل، إذا ما استمر في ملاينة ومسايرة القوى المتشنجة الممسكة بعنان الشارع العربي، بدلا من محاسبتها وكشفها، قبل ان تعاود المزايدة عليه، وتحميله مسؤولية هزيمتها.