الدين وحرية التعبير في العالم العربي: علاقـة تراجيدية إلى أجل غير مسمى

TT

ستون عاما مضت على تاريخ صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والبشرية لا تزال تفتك بأبسط حقوق الإنسان، منتصرين في أنماط سلوكنا إلى شريعة الغاب وقوانين القوي، رافضين دون كشف دحض مقولة جون لوك بأن «الإنسان ذئب لأخيه الإنسان».

إنه وضع لا يخلو من مفارقات غريبة وصادمة: تقدم وحداثة وديمقراطية ورفق بالحيوان وعلم وتكنولوجيا، وفي مقابل ذلك وفي داخله تخلف إنساني ورجعية وقتل للأطفال والنساء والأبرياء والدماء تسيل هنا وهناك وكأنها لا تغدو أن تكون أكثر من مجرد ماء عكر.

وللأسف تفلح المفارقات الصارخة دائما في الإطاحة بالمنجز مهما كان شأنه عاليا، الشيء الذي يجعل من مرور ستين عاما على تاريخ صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان 60 ثانية لا أكثر وربما أقل.

ويزداد الطين بلة عندما نقارب وضع حقوق الإنسان في العالم العربي لأن العالم الغربي حقق في داخل مجتمعاته خطوات مهمة، تتعلق بقيم المواطنة والديمقراطية وحقوق الإنسان الفردية، بينما نحن، بدرجات متفاوتة نسبيا، لم نهضم مسألة حقوق الإنسان ولا يزال الفرد في مجتمعاتنا منتهكا ويتراوح صوته بين الأخرس والنبرة الخافتة. بل إن قيم القبيلة التي تفرض منظور الجماعة تقوض حضور الفرد هي المستندة بالمنظومة القيمية لمجتمعات، وإن كان بعضها في الظاهر يدعي الحداثة واقتحامه مغامرة المجتمع المدني وتشبثه بالعقلانية والحداثة. ولعل الأمر الأكثر خطورة أن أطرافا رسمية وغيرها سعت خلال السنوات الماضية إلى حشر الدين في كل صغيرة وكبيرة وإظهاره في صورة القامع والمانع لمسألة تجذير حقوق الإنسان في العالم العربي وخصوصا بالنسبة إلى البند المتعلق بحرية الرأي والتعبير والتفكير. وهي صورة نجح أصحابها في تكريسها وتوظيفها من باب المزايدات الدينية والمناورة باسم الدين.

ودون الدخول في ضرب الأمثلة ومظاهر الزج بالدين في قضايا لا تمت له بصلة ولا تستهدفه وتنطلق من منطلقات أخرى، فإن الرسالة التي تضمنت نداء من المثقفين العرب حول الدين وحرية التعبير في العالم العربي والتي نشرها مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، قد أصابت مقاربة هذه الظاهرة الخطيرة التي تجري ضد مصالح مجتمعاتنا وتصب في الخندق المؤدي مزيدا من التدهور الأخلاقي والثقافي والديني.

واللافت أن دعاة الدفاع عن الدين ضد حرية التعبير، هم أكثر إيذاء للدين الإسلامي لأن خطابهم المستند إلى الوصاية الدينية والمحاكمات ومقاربة الإبداع الفني والفكري بتلك المفاتيح التي نقارب فيها الجرائم، كل هذا وغيره لا يخدم الإسلام في شيء، بل إنه يقدم صورة خاطئة وينتهك حقيقة ان الإسلام جاء لمناصرة العبيد والنساء والفئات الضعيفة والمهمشة وللدفاع عن حرية الناس الذين ولدتهم أمهاتهم أحرارا.

وفي المستوى الفني والعلمي فإن الآيات الداعية إلى إعمال العقل والتفكير والتدبر وطلب العلم والحرية، بما فيها الحرية الدينية، من الصعب نفيها من دين يدعو إلى الاجتهاد، بل وحتى إلى إفتاء القلب والشعور.

ومن جهة أخرى، لماذا هذا الإصرار على الحطِّ من شأن الدين كمجال يحظى بهيبة وبجلال إلى مواضيع تعتدها بعض النخب السياسية الحاكمة والتيارات الفكرية المتطرفة ورقات للضغط وللإرهاب ولتأخير عجلة التقدم والانفتاح ؟ أليس مجرد توظيف مآرب آيديولوجية ضيقة وخانقة وأهداف سياسية مرحلية وآنية هو الاعتداء الأشد على حرمة الدين وقدسيته؟

إن تدعيم حرية التعبير والرأي والتفكير والإبداع في مجتمعاتنا، والقطع مع توظيف الدين بوصفه قيدا يُدمي العقول والأفكار، يشكل وصفة علاجية لا حلّ لنا سوى اتباعها إذا ما أردنا العافية الدينية والاجتماعية والسياسية، لا سيما أن علاقة ما هو ديني بما هو سياسي أثبت تاريخها الطويل فشلها وضعفها، وكيف أن الدين في الأخير يتحمل الأضرار التي تتوارثها الأجيال والمجتمعات فيما يشبه الحلقات المفرغة والمفزعة.

وإذا كنا قد جرّبنا التوظيف السياسي للدين وإشهار الدين كسلاح ضد حرية التعبير الفكري والأكاديمي والأدبي والفني ورأينا نتائج ذلك، فلماذا لا نجرّب حماية الدين من ألاعيب السياسة والتيارات الفكرية المتطرفة والاقصائية التي لا تعرف في واقع حقيقتها ولاء إلا لفن الممكن ولمصلحتها الضيقة والانتهازية والمتعارضة طولا وعرضا مع مقولات أي دين الأبدية والشاسعة.

[email protected]