قولوها يرحمكم الله

TT

لاحظت تغيره للأفضل فسألته متعجباً ماذا حل بك؟!

فقال لي كلمة واحدة: إنها (المحبة)، قلت له: كلنا يعرف المحبة وينشدها، ولكن (أفصح)، قال: صحيح كلنا يعرف المحبة وينشدها، ولكن ما أقل من يعلنها ويفشيها. ولكي لا تتعبني بكثرة أسئلتك التي جبلت عليها، والتي كثيراً ما أرهقتني بالإجابة عنها، اختصر لك حالتي التي حصلت بيني وبين أبي العجوز الذي لا يتنقل سوى على (كرسي متحرك).. إذ انه في المدّة الأخيرة أصبح كثيرَ البكاءِ. وبين الحين والآخر يأخذ يدَ والدتي ويقبلها، بل انه لا يتورع عن ملاطفة الشغالة والإشادة بها، وقد عزونا ذلك إلى بداية (الخرَف) التي بدأت تسيطر عليه، ولكن خرفه ذلك كان لطيفاً، فهو غدا ودوداً أكثر من اللازم ودائمَ الابتسام رغم دموعه الكثيرة، ويبوح بمشاعره لكل من يلقاه.

وأحياناً آخذ سيارتي من بلدتي التي أعمل بها وأذهب إليه في بلدته التي يسكن بها، لزيارته كل شهر أو شهرين وأمكث عنده عدة ساعات ثم أعود إلى بيتي. وعند سلامي عليه، كنت دائماً أمد له يدي مصافحاً عند القدوم وعند الوداع، وأحياناً (أربت) على كتفه دلالة المحبة، ولا أذكر أنني قبلت يده مثلاً أو قلت له: أحبك.

وقبل عدة أيام ذهبت، وعندما دخلت عليه وجدته على كرسيه تحت النافذة المفتوحة يحاول أن يقرأ في كتاب بواسطة العدسة المكبرة، لم ينتبه لي لثقل سمعه، وأخذت أتأمله وقد اجتاحتني فجأة عاطفة هائلة نحوه، وأحسست أنني مغفل ومحروم، وها أنذا بلغت الثامنة والأربعين ووالدي الثامنة والثمانين، ولم أظهر له محبتي يوما، كما يجب، فاندفعت ناحيته، وقلت له بدون مقدمات: لقد جئت لغاية واحدة، لكي أقول لك كلمة لم أقلها لك من قبل: إني (أحبك)، فقال: إلهذا السبب قطعت تلك المسافة الطويلة لتقولها؟!، وصمت برهة، ثم قال: ثق تماماً بأنني مسرور لأنك فعلت ذلك، ثم انحنيت عليه وقبلت يده وجبينه وخده، فما كان منه إلاّ أن طوق عنقي بيديه وأجهش بالبكاء كأي طفل صغير، وقال لي وشفتاه ترتجفان: لقد توفيَّ أبي وأنا رضيع. وبعد أن كبرت قليلاً تركت قريتي ووالدتي وذهبت إلى المدينة لكي أكون عامل بناء بمنازل الطين. وبعد أن اشتد عودي هاجرت إلى الخليج كعامل غوص للبحث عن اللؤلؤ، ومكثت هناك عدة سنوات أصارع الأهوالَ والمشقات. وبعد أن جمعت ما أستطيع أن أكوّن به أسرة رجعت إلى بلدي وتزوجت والدتك. ولما تقدمت السن بأمي حاولت أن أقنعها لكي تسكن معنا، ولكنها رفضت أن تغادر قريتها، ولكنني لا أنسى أنها قالت لي كذلك: بارك الله فيك إني احبك لأنك اقترحت عليّ الانتقال لبيتك.

وصمت والدي قليلا بعد أن كفكف دموعه، وقال: ولكم أتمنى أن تكرر علي هذا العرض حتى ساعة وفاتي، رغم أني سأرفضه دائماً. وأردف قائلا: اعرف أنك تحبني، غير أني أود أن أسمع هذه العبارة منك إلى أن تحين وفاتي.

انتهت الحكاية: وسؤالي هو: كم من الأبناء يقولون لآبائهم هذا؟!، بل كم من الآباء هم مهملون مرمون منسيون محتاجون مقهورون، دون أن يلتفت لهم أو يرحمهم أبناؤهم، ناهيك من أن يقول الواحد منهم لأبيه: إنني أحبك.

وبمناسبة السنة الجديدة أقول لكم جميعاً من كل قلبي: إنني أحبكم.

[email protected]