العراق.. تعددت رؤوس السنين!

TT

تعددت رؤوس السنين لدى أهل العراق، بتعدد دياناتهم وقومياتهم، ومَنْ اعتبر ذلك نقمة، فسعى إلى الحل بالعزل في غيتوات، ومَنْ اعتبره نعمة القاسم المشترك فيه المواطنة. هذا ولم ينأ عراقيو اليوم كثيراً عن الأسلاف بحساب السنين والفرح برؤوسها.

يُذكر أن رأس السنة السومرية والبابلية هي التأسيس الأول للفرح بتجدد الدهور، وكان الاحتفال بها في لبة الربيع، (1 نسيان/ أبريل)، وتجري فيه طقوس الزواج المقدس، وخلاله يقدم ملك البلاد تاجه وشاراته الملوكية للآلهة، ليجدد عهده في الحكم، بصفع الكاهن له، كل ذاك من أجل إخماد الغرور في نفسه. عندها يحصل على رضى الآلهة عن طريق الكاهن (حضارة العراق). وخلال العيد تقرأ قصة الخليقة، مما يعني أنه احتفال بذكرى التكوين. وما أن وصل اليهود إلى أرض بابل، قبل ثلاثة آلاف عام ويزيد، حتى اقتبسوا منها التقويم الشمسي، وجعلوا تقويمهم القمري خاصاً بالدين (معجم الكتاب المقدس).

كذلك أحيت بغداد العباسية عيد الربيع بما عُرف بالنوروز، وإن اعتمد ملوك الفرس النسيء في الشهور فيتأخر النوروز وجباية الخراج حتى موسم الحصاد، فإن خلفاء مسلمين أبطلوا النسيء وجعلوا آذار موسماً لجبي الخراج، فترى الفلاح يستدين خراج أرضه قبل الحصاد، حتى رأى جعفر المتوكل (ت247هـ) «زرعاً لم يدرك بعد، ولم يستحصد، فقال: استأذنني عبيد الله بن يحيى في فتح الخراج، وأرى الزرع أخضر، فمن أين يُعطي الناس الخراج، فقيل له إن هذا أضر بالناس» (البيروني، الآثار الباقية عن القرون الخالية)، فأمر في تأخير النوروز والخراج حتى شهر حزيران (يونيو).

وجعل المعتضد بالله، السنة (282هـ)، للنوروز تأريخاً ثابتاً (11 حزيران)، وسماه النوروز المعتضدي (ابن الأثير، الكامل في التاريخ). وما زال الكورد يحتفلون بالنوروز (21 آذار) كعيد قومي. وأقر هذا اليوم في العهد الملكي عطلة رسمية، لا للنوروز بل لميلاد الملك غازي (21 آذار 1912)، إلا أنه أصبح في العهد الجمهوري يوماً للشجرة. وحسب ذاكرة المعماري محمد مكية، أن الزعيم عبد الكريم قاسم، بعد لقائه به وتحبيذ إحاطة بغداد وطرقاتها بالنخيل، أصدر قانوناً حرم فيه قلع النخلة من أجل بناء أو شق طريق.

وإذا علمنا أن بالعراق عدداً ملحوظاً من الملة البهائية، حيث أعلنت دعوتهم ببغداد العثمانية، فهم الآخرون جعلوا النوروز 21 آذار رأس سنتهم، وأسموه شهر البهاء، الذي تبدأ فيه السنة، وهم يقسمون السنة إلى 19 شهراً، وكل شهر 19 يوماً (بهاء الله والعصر الجديد).

ولا تبتعد الديانة الأيزيدية، الحالية بالعراق، عن احتفالات الربيع السومرية والبابلية، حيث الاحتفال برأس السنة الأيزيدية في أول أربعاء من شهر نيسان، وهو حسب عقيدتهم بداية التكوين، وهو عيد ملاك التجدد «طاووس ملك». وفيه يجري احتفال ديني كبير فرحاً بالربيع وتجدد الأرض (باقسري، الأيزيدية).

كذلك يربط الصابئة المندائيون عيد رأس سنتهم بأول الخليقة المادية، ويسمى العيد الكبير، والكرصة، ونوروز ربه أحياناً، وهو الاحتجاب في المنازل (36) ساعة. فخلالها خلق الحي الأزلي العالم المادي، فصعدت الكائنات النورانية، وظلت الأرواح الشريرة طليقة على الأرض. وما المكوث في المنازل إلا الحماية من تلك الشرور (دراوور، صابئة المندائيون). وقيل لهذا العيد قيمة تربوية أيضاً، وهو مراجعة الإنسان لسلوكه (برنجي، الصابئة المندائيون). وكثيراً ما حدث أن المندائيين، في هذه الساعات، يؤمنون حيواناتهم لدى جيرانهم من المسلمين، وهو حسب تقويمهم صادف هذه السنة شهر تموز، ويتحرك حساب الزمن لديهم يوماً كل أربع سنوات.

كان نصارى العراق، في العهد العباسي، يحتفلون بعيد (القلنداس)، على أنه رأس السنة الميلادية (الصابئ، رسوم دار الخلافة). ولا يحتاج الحديث عن رأس هذه السنة، التي لا علاقة لها بالربيع أو الخليقة، بل تشير إلى ميلاد السيد المسيح، ليكون تاريخاً فاصلاً مع التواريخ السابقة. إلا أن الكنيسة الشرقية عموماً، والأقباط والأرمن، يزيدون 13 يوماً، فيكون أول السنة (14 كانون الثاني)، وميلاد المسيح في السابع من كانون الثاني، وليس 25 كانون الأول مثلما لدى الكاثوليك ومسيحيي الغرب عامةً.

ولعلَّ المسلمين العراقيين أقل الشعوب احتفالاً برأس السنة الهجرية، التي صادفت الاثنين الماضي، وتبدأ في (1 محرم)، حيث انحسار الفرح بالعزاء الحسيني، الذي يبدأ من ذلك اليوم وحتى العاشر من الشهر، وخصوصاً في القرى والمدن الدينية. وقصة تأسيس التاريخ الهجري معروفة، حصلت في خلافة عمر بن الخطاب، بعد رسالة الصحابي أبي موسى الأشعري إلى الخليفة: «تأتينا منك كُتب ليس لها تاريخ» (الآثار الباقية). هذا هو تنوع العراق، وما تشابك فيه من العقائد، التي تظهر جلية في تعدد رؤوس السنين!