مجلس التعاون الخليجي.. والتحديات الراهنة

TT

على الرغم من الانتقادات التي يوجهها البعض إلى مجلس التعاون الخليجي، وبخاصة فيما يتعلق بمدى فاعليته سواء على الصعيد الأمني أو على صعيد تعزيز التكامل الاقتصادي بين الدول الأعضاء أو على صعيد تنسيق السياسات الخارجية لهذه الدول، ومع التسليم بأن بعض هذه الانتقادات صحيح ومشروع، خاصة أن شعوب دول المجلس لديها طموحات وتطلعات كبيرة بشأن الدور الذي يتعين أن يقوم به، إلا أن تقييم أداء المجلس يجب أن يتم من خلال منظور شامل ينظر إليه في ضوء ظروف نشأته، وطبيعة صلاحياته، وحجم التحديات التي شهدتها ـ وتشهدها ـ المنطقة منذ أواخر سبعينات القرن العشرين. وفي ضوء ذلك فإنه من المهم عدم تجاهل بعض الانجازات المهمة التي حققها المجلس، لا سيما أنه حافظ على استمراريته في بيئة عربية لم تعرف سوى الفشل على صعيد التجمعات الإقليمية والتجارب الوحدوية، ناهيك عن حالة التعثر والجمود التي أصابت الجامعة العربية.

وتتجلى أهم إنجازات المجلس في: إبرام سلسلة من الاتفاقيات والاستراتيجيات والخطط التي تمثل أطراً للتعاون والتنسيق بين الدول الأعضاء في مختلف المجالات، قد ينتقد البعض هذه الاتفاقيات والاستراتيجيات والخطط من زاوية البطء أو التراخي في عملية تنفيذها، إلا أنها تظل هامة ويمكن البناء عليها وتطويرها ومعالجة جوانب القصور التي تشوبها بشكل تدريجي. وفي هذا السياق يمكن الإشارة إلى الاتفاقية الأمنية، والاتفاقية الدفاعية، والاتفاقيات والخطط الأخرى المتعلقة بالعملة الخليجية الموحدة والسوق الخليجية المشتركة وإزالة القيود على حرية التنقل والاستثمار لمواطني المجلس وغير ذلك. كما أن الانتظام في عقد اجتماعات المجلس على مختلف المستويات يعزز من فرص ومجالات التنسيق بين الدول الأعضاء، حيث تتيح هذه الاجتماعات الفرصة لمناقشة القضايا الخلافية أولاً بأول، وبلورة الحلول المناسبة لها.

وبالإضافة إلى ما سبق، فإن تجربة المجلس كرست لدى الدول الأعضاء قناعة راسخة مفادها ضرورة الحفاظ على هذا الكيان باعتباره بمثابة البيت الخليجي المشترك الذي يضم مجموعة من الدول تجمعها الكثير من الروابط والعلاقات والمصالح المشتركة، لا سيما أن عالم اليوم لم يعد يعترف بالكيانات الصغيرة، وهو الأمر الذي يدعو إلى ضرورة الحفاظ على هذا الكيان والعمل من أجل استمراريته مع تفعيل دوره.

ولكن الإشارة إلى بعض الجوانب الإيجابية في تجربة المجلس لا تعني بحال من الأحوال إغفال السلبيات وأوجه القصور التي تشوب عمله وتؤثر على فاعليته ودوره، الأمر الذي يؤكد أهمية (توسيع صلاحيات المجلس) وتطوير أجهزة المجلس ومؤسساته وآليات عمله حتى يصبح أكثر فاعلية في التعامل مع جملة من التحديات الكبرى التي تواجهها المنطقة والعالم والتي تفرض الكثير من الاستحقاقات على الدول الأعضاء. وتتمثل أهم هذه التحديات فيما يلي:

1- الأزمة العراقية وتداعياتها: على الرغم من بعض التطورات الإيجابية التي حدثت على الساحة العراقية خلال الآونة الأخيرة، إلا أنه من السابق لأوانه الحديث عن تحرك العراق بفاعلية على طريق تحقيق التنمية والاستقرار والديمقراطية والأمن، حيث لا تزال هناك الكثير من المشكلات والتحديات التي تجعل مستقبل العراق مفتوحا على كل الاحتمالات، وبخاصة في حالة انسحاب القوات الأميركية من العراق قبل أن يتم ترتيب أوضاعه وتعزيز مؤسساته الأمنية والعسكرية على نحو يضمن الأمن بعد الانسحاب، وكل ذلك وغيره يفرض على دول المجلس التحرك بشكل منسق وفعال للحيلولة دون تدهور الأوضاع في العراق، لأن ذلك سوف تكون له تأثيراته السلبية على أمنها ومصالحها. كما أن المطالب التي يطرحها البعض بشأن قبول العراق كعضو في المجلس تدعو الدول الأعضاء إلى التحسب لمثل هذا التوجه والتعامل معه على أسس استراتيجية وواضحة.

2- أزمة البرنامج النووي الإيراني: على الرغم من كثرة جهود ومحاولات تسوية الأزمة بشكل سلمي، إلا أنها لم تفض إلى نتائج ملموسة، حيث لا تزال الأزمة تراوح مكانها في ظل تجاهل إيران لإرادة المجتمع الدولي واستمرارها في عمليات تخصيب اليورانيوم. ونظرا لأن إدارة أوباما قد تتبنى مقاربة جديدة في التعامل مع إيران قوامها الجمع بين العصا والجزرة، فإنه من المهم أن تعمل دول المجلس من أجل تفعيل جهود التسوية السلمية لهذا الملف على نحو يجعل منطقة الخليج خالية من أسلحة الدمار الشامل ضمن إطار تعاهدي متفق عليه من قِبل جميع الأطراف الإقليمية. كما أنه من المهم أن تتحرك هذه الدول بحيث تضمن بأن لا تكون أية صفقة أميركية ـ إيرانية بشأن هذا الملف على حساب مصالحها.

3- تحدي جماعات العنف والارهاب والقرصنة: من المؤكد أن دول المجلس بحاجة إلى مواصلة تعزيز التعاون في ما بينها من أجل التصدي للمخاطر والتهديدات التي تمثلها جماعات العنف والإرهاب والجريمة المنظمة والقرصنة، لا سيما أن هذه الدول مصدرة للنفط ويهمها أن تكون ممراته آمنة.

4- الأوضاع في اليمن: من مصلحة دول المجلس أن ينعم اليمن بالأمن والاستقرار، لأن عدم الاستقرار في اليمن سوف تكون له انعكاساته السلبية على جميع دول المجلس، لذلك فمن المهم أن تواصل هذه الدول جهودها من أجل دعم فرص التنمية ومحاربة الفقر في اليمن، كما يتعين على الحكومة اليمنية أن تفعّل إجراءاتها من أجل تحقيق الأمن وضبط الأوضاع وخلق بيئة ملائمة للاستثمار.

5- تحدي الصراع العربي ـ الإسرائيلي: إن دول المجلس لن تستطيع أن تعزل نفسها عن هذا الصراع وتداعياته، ومن المهم أن تواصل جهودها من أجل دعم الشعب الفلسطيني وتعزيز وحدته الوطنية، وتحريك الجهود الإقليمية والدولية من أجل دفع عملية السلام طبقا للمبادرة العربية.

6 ـ تحدي الأزمة المالية العالمية: لقد تضررت دول المجلس بدرجات متفاوتة واشكال مختلفة من جراء الأزمة المالية العالمية، وبخاصة في ظل الأضرار التي اصابت اسواق المال وبعض القطاعات الاقتصادية الحيوية في هذه الدول، ناهيك عن الانخفاض الكبير في اسعار النفط. ومن هنا فإن دول المجلس احوج ما تكون في هذه المرحلة الى تعزيز العلاقات الاقتصادية والمالية فيما بينها من اجل التصدي لتداعيات الأزمة المالية العالمية، خاصة ان هذه الأزمة قد تطول لبعض الوقت.

7 ـ تحدي التعامل مع الإدارة الاميركية الجديدة: من المهم ان تنسق دول المجلس فيما بينها من اجل تبني سياسة فعالة في التعامل مع الولايات المتحدة الاميركية خاصة ان هناك ادارة جديدة سوف تتولى السلطة في يناير القادم. وهناك العديد من الملفات المشتركة التي يتوجب على دول المجلس مناقشتها مع الادارة الاميركية الجديدة.

وبصفة عامة، فإن مجلس التعاون لن يكون قادرا على التعامل بفاعلية مع التحديات والاستحقاقات سالفة الذكر بدون ان يطور من منظومات وآليات عمله، بحيث يصبح دوره اكثر فاعلية في توطيد اواصر التعاون والتنسيق بين الدول الاعضاء. كما انه من المهم ان تواصل هذه الدول جهودها على طريق الاصلاح الداخلي سواء فيما يتعلق بالاصلاح السياسي او الاصلاح الاقتصادي او اصلاح نظم التعليم او معالجة الخلل في اسواق العمل والخلل في التركيبة السكانية، فالاصلاح الداخلي يعزز من قدرة دول المجلس على العمل المشترك، كما يعزز من قدرتها على مواجهة التحديات الخارجية سواء أكانت اقليمية او دولية.

* رئيس مركز الخليج للأبحاث