التلاؤم مع توجهات إيران دفع «حماس» للتضحية بغزة

TT

الهجوم العنيف الذي شنه حسن نصر الله على مصر وعلى «أنظمة عربية» أخرى لم يسمها لكنها معروفة، يؤكد ان هناك «مؤامرة قذرة» تقف خلفها إيران ومعها حلفاؤها في «فسطاط الممانعة والمقاومة» وأنه لتنفيذ هذه المؤامرة تم استدراج الإسرائيليين، الذين كانوا ينتظرون المبرر الذي يريدونه للقيام بما قاموا به، لذبح غزة من الوريد الى الوريد واستهداف كل سكانها الذين يصل عددهم الى نحو المليون ونصف المليون لحسابات انتخابية ولحسابات تلتقي مع حسابات الجمهورية الإسلامية.

وبداية فإن أي عربي وأي مسلم صاحب ضمير حي لا بد وأن يشجب هذا العدوان الهمجي والغاشم ويدينه ويطالب بإيقافه قبل أن يصل الى المدى الذي يريده ولا بد من ان يقف مع أهل غزة لأنهم أهلنا ومن لحمنا ودمنا ولا بد من تقديم كل العون لهم لتضميد جراحهم ولرفع سكاكين الإجرام من فوق أعناقهم.. فهذا شيء... ولكن معرفة حقائق ما جرى وما يجري شيء آخر لا بد من الحديث عنه وبكل وضوح وصراحة.

لقد قيل ويقال الآن: «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة» والهدف حاليّاً هو الهدف السابق ذاته حيث جرى التلويح بهذا الشعار مرات عدة خلال حرب يونيو (حزيران) وبعدها وخلال حصار بيروت عام 1982 وبعده.. وأيضاً خلال وبعد الحرب التي شنتها إسرائيل على لبنان في يوليو (تموز) 2006 والتي استدرجها حسن نصر الله استدراجاً وحوَّل نتائجها المدمرة، بشريّاً ومادياً، بمساندة إعلام التطبيل والتزمير وتزوير الحقائق الى انتصارٍ إلهي وهذا هو نفسه الذي يجري الآن بالنسبة لحرب غزة.

لا خلاف على ان الإسرائيليين ولأسباب كثيرة بعضها يتعلق بأوضاعهم الداخلية وباستحقاقات الانتخابات المقبلة وبعضها الآخر يتعلق بواقع الشرق الأوسط وبما يمكن ان يعكسه مجيء الإدارة الأميركية الجديدة على المنطقة كانوا يتحينون الفرص لاستهداف غزة بعدوان كهذا العدوان لكن ما لا خلاف عليه أيضاً، إلاَّ بالنسبة للمناكفين وأصحاب الأجندات الخاصة، هو أنه كان بالإمكان تفادي كل هذا الذي حصل أو على الأقل تأجيله الى أن يأتي الله بما لا تعلمون لو ان «حماس» غلَّبت مصلحة شعبها على الحسابات الحزبية وعلى الولاءات الإقليمية التي تربطها بـ«فسطاط الممانعة والمقاومة» بقيادة وإشراف إيران وبمخططاته وتطلعاته.

لم تكن خطوة إنهاء «الهدنة» مع إسرائيل لا حصيفة ولا موفقة ولو أن «حماس» لم تكن تريد هذه الحرب وتسعى إليها وهي تظن أنها لن تكون بكل هذا المستوى من الإفراط بالعنف وبكل هذه الهمجية والدموية لكانت تحاشت الألاعيب الاستفزازية ولتجنبت إعطاء الإسرائيليين المبرر الذي كانوا يريدونه ولحرصت حرصاً شديداً على إطالة أمد «التهدئة» التي كانت أعلنت وأكثر من مرة وعلى ألسنة كبار مسؤوليها أنها تريدها لعشرة أعوام وأكثر.

عندما يكون الخصم بانتظار ان تعطيه المبرر الذي يريده للانقضاض عليك وعندما تكون موازين القوى غير متكافئة فإنه عليك ان تتصرف بحسابات دقيقة جداً، اللهم إلا إذا كنت تريد الانتحار لأي سبب من الأسباب، والحقيقة أنه لو روجعت الأيام القليلة التي سبقت هذه الحرب بمسؤولية وصدق وبعيداً عن الحسابات التي لا علاقة لها بالشعب الفلسطيني وقضيته، لجرى التأكد من ان «حماس» متورطة في مخطط إقليمي وأنها من أجل إنجاز هذا المخطط قد ضحت بغزة وبأهل غزة، وتعاملت مع «التهدئة» بالطريقة التي تعاملت بها معها وهي تعرف مسبقاً ان الإسرائيليين كانوا ينتظرون المبرر الذي يريدونه للقيام بهذه الهجمة البربرية الغاشمة.

إن المفترض أنه بات معروفاً بعد كل هذه التجارب المرة ان نظام الثورة الخمينية في إيران قد بدأ يسعى ومنذ لحظة انتصار ثورته الى تصدير هذه الثورة الى الدول المجاورة والى انتزاع الشارع العربي من أيدي الأنظمة العربية التي اعتبرها خائنة وحليفة لـ«الشيطان الأكبر» وإنه لهذه الغاية أقام رؤوس جسور له تمثلت ببعض امتداداته المذهبية في العراق وبحزب الله في لبنان وبحركة «حماس» في فلسطين وبحركة «الحوثي» في اليمن وبتشكيلات أصغر حجماً وأقل تأثيراً في بعض دول الخليج وفي مصر والسودان والمغرب العربي.

كانت إيران تشعر ان العراق الواحد الموحد والقوي والمتمكن يشكل سدّاً أمام تطلعاتها لتصدير ثورتها في اتجاه الشرق الأوسط الذي ترى أنها الأحق بقيادته وأنها الرقم الأهم في معادلته ولذلك فإنها بادرت الى التعاون مع الولايات المتحدة ومع الرئيس جورج بوش لاحتلاله وهي عاقدة العزم سلفاً على تمزيقه وإغراقه في الفوضى وهذا هو ما حصل وتحقق وما فتح الطريق بعد كسر هذه الحلقة الرئيسية للانتقال الى مصر التي تعرضت قبل حرب غزة التي استدرجتها حركة «حماس» استدراجاً الى حملة منظمة وإلى مظاهرات شوارع صاخبة كشفت دقة تنظيمها مدى التنسيق والتعاون بين الإخوان المسلمين بكل فروعهم بتنظيمهم العالمي وبين قيادة الوليِّ الفقيه في طهران.

كان المخطط يقضي بأن يُعطى استهداف مصر غطاءً فلسطينياً وأن تلعب فيه حركة «حماس» موقع رأس الحربة ولذلك كانت هناك حملات معبر «رفح» المفتعلة ضد هذه الدولة العربية وكانت هناك لعبة تحويل غزة وأهل غزة الى وقود لهذا المخطط وكان هناك هجوم حسن نصرالله غير المسبوق على الرئيس المصري حسني مبارك ونظامه وكانت كل هذه المهاترات والشتائم التي استهدفت هذه الدولة ودولاً عربية أخرى أكثر مما استهدفت إسرائيل وعدوانها وهجمتها البشعة.

كل هذا الصخب والصراخ الذي طفحت به شوارع العرب كان هدف الذين حركوه ووقفوا وراءه هو خدمة هذا المخطط الإيراني الذي بدأ بمصر لأنها تشكل الحلقة الرئيسية في السلسلة العربية وهو زرع الفوضى غير الخلاقة في هذه المنطقة كي تحقق إيران ما بقيت تسعى إليه، إن في عهد محمد رضا شاه وإن منذ لحظة انتصار الثورة الخمينية وهو ان تصبح الرقم الرئيسي في معادلة الشرق الأوسط وأن تستعيد أمجاد فارس القديمة.

إن هذه هي الحقيقة، ولو أن «حماس» لم تكن متورطة بالفعل في هذا المخطط فإنه كان عليها وقد أصبحت الحرب على الأبواب ان تقترب من مصر بدل ان تبتعد عنها وأن تصالحها بدل ان تعاديها وتخاصمها لكن هذا لم يحصل وللأسف مما يعني أنه جرى تقديم غزة وأهل غزة كضحية على مذبح هذه الأطماع الإيرانية في هذه المنطقة.

كانت تقديرات إيران ومعها كل حلفائها في «فسطاط الممانعة والمقاومة» ان الفوضى ستعم مصر بمجرد ان يبدأ الهجوم الإسرائيلي على غزة وأن الدول العربية المعتدلة والمحافظة ستتمزق تحت ضغط مظاهرات الشوارع التي بعضها بريء وبعضها موجه وكانت تقديرات «حماس» ان الحرب ستكون مجرد معركة محدودة وأنه بمجرد توقفها ستخرج هي ترفع بيارق النصر كما فعل حسن نصرالله بعد حرب يوليو (تموز) 2006 .. فهل يا ترى ستتطابق حسابات القرايا مع حسابات السرايا.. إن كل شيء جائز.. وأن الحكم النهائي على هذا الصعيد سيكون بانتظار ما سيجري خلال الأيام القليلة المقبلة!

لا يمكن تصديق ان الهجوم الإسرائيلي جاء مباغتاً لـ«حماس» فالتحشدات العسكرية الإسرائيلية كانت تجري في وضح النهار وأهل غزة كانوا يتابعون هذه التحشدات حتى بالعيون المجردة لكن الواضح ان تقديرات قادة هذه الحركة أنه لا يمكن ان تصل الأمور الى الحرب الشاملة وعلى هذا النحو التدميري، وأن أقصى ما يمكن ان يحصل هو تحركات حدودية محدودة فتخرج هي منتصرة لتفعل ما فعله حزب الله وتفرض نفسها على الفلسطينيين وعلى العرب كأمر واقع وتحسن مواقعها التحالفية لدى أشقائها «العجم».