مأساة غزة: ارتباك قاتل

TT

تابعت كعاجزين كثر غيري مشاهدَ إنقاذ جثث «جواهر» و«دنيا» و«سمر» و«إكرام» و«تحرير» عبر الشاشات.. إنهن الشقيقات الخمس اللواتي قضين نياماً على فراشهن في غزة بعد أن قصفت الصواريخ الاسرائيلية مسجداً مجاوراً لمنزلهن البائس في «بلوك 5» بمخيم جباليا. أجسادهن الصغيرة المغطاة بالغبار والحجارة.. وأنين والديهما المفجوعين، وصدمة من نجا من إخوتهن كل ذلك ما زال صداه يتردد في المخيلة على نحو موجع.. لكن هل بقي للألم معنى أو دلالة سوى ذلك الانقباض الهائل في الصدر والغضب المعتمل دون جدوى!..

قد يكون العجز هو الشعور الأصعب وسط هذه المأساة التي بتنا نمتهنها وكأنها حرفتنا الوحيدة.

الترويع الذي تعيشه غزة منذ أيام والأطفال الذين يسقطون ونحن نحصي أعدادهم ونشاهد صورهم لم يعد جديداً، وذلك ما يضاعف المرارة. لكن ليس تكرار المأساة ما أوقع الإعلام العربي في ارتباك حيال التعامل مع الهجمة الاسرائيلية الشرسة وغير المبررة على غزة. إنه تكرار ممجوج لخطأ ارتكب خلال حرب يوليو (تموز) عام 2006.

انقسمنا في السياسة خلال تلك الحرب من خلال الإصرار على محاسبة «حزب الله» وتحميله مسؤولية الهجمة الاسرائيلية. ذلك الانقسام تجسدَ في الإعلام من خلال برودة التعامل مع الحدث وتغطيته في أيامه الأولى. لم يتمكن الاستدراك اللاحق إعلامياً وسياسياً من تجاوز عمق الانقسام الذي ساد لبنان والمجتمع العربي والإسلامي برمته. من غير المقبول أن يتكرر ذلك الخطأ اليوم.

قوبلت الهجمة على غزة بارتباك إعلامي عربي مماثل، خصوصاً من قبل مؤسسات إعلامية وإخبارية بارزة. لم أكن ولن أكون يوماً من داعمي حركة «حماس» أو «حزب الله» أو «القاعدة» أو أي من تلك الحركات التي أنهكت مجتمعاتنا وساهمت في فنائها تحت شعارات تحريرية وقومجية كبرى. لكن هذا الموقف السياسي يجب ألا يضيع البوصلة.. إسرائيل هاجمت غزة على نحو شرس وهمجي، وأي وسيلة إعلام عليها التعامل مع هذا الواقع قبل أي اعتبار آخر.

ليس الوقت وقت تصفية حساب. يمكننا أن نبقى ويجب أن نبقى على موقفنا السياسي الناقد من دون أن يفقدنا هذا الأمر حسّنا الانساني أولاً والمهني ثانياً.. هناك حرب إبادة واستباحة، فلا يحق لأي كان خصوصاً لدولة عنيفة مثل اسرائيل أن تستمر في تصفية حركات سياسية وشعوب على النحو القائم. أنا لا أدعم حركة حماس لكن لا أقبل أبداً أن تتم إبادة قادتها وعناصرها وجمهورها على هذا النحو. ثم إن الموقف الأخلاقي يتطلب تدقيقاً فيما تعنيه معادلة القضاء على «حماس». إنها تستبطن من دون شك احتمالاً راجحاً لتعريض بنية مجتمع لعملية إبادة كما يجري في غزة اليوم.

نحن صحافيون ونحن بشر أيضاً. ولكلا الاعتبارين وظيفة في أسلوب نقلنا للحدث في غزة. فنحن كبشر علينا ألا ننسى أن أطفالاً تقتلهم طائرات مغيرة.. علينا الانحياز للضحية. إنها معادلة بديهية. الارتباك هنا غير مبررّ على الإطلاق.

diana@ asharqalawsat.com