ماذا بعد حمام الدم في غزة؟

TT

التظاهرات الشعبية التي انطلقت في العواصم العربية «مستنكرة العدوان الإسرائيلي على غزة ومطالبة الدول العربية والإسلامية بالتدخل ومحملة الانظمة الحاكمة مسؤولية التخلي عن الشعب الفلسطيني».. اعادتني ستين سنة إلى الوراء. يومذاك وكنا تلامذة ممتلئين حماسة واندفاعا وإيمانا بعدالة القضية الفلسطينية وانطلقنا في الشوارع نهتف: «يا فلسطين جينالك» ونطالب الدول العربية بالتدخل العسكري لمنع تقسيم فلسطين. وتدخلت الدول العربية يومذاك ولم تكن مستعدة عسكريا ولا مقدرة للظروف الدولية المؤيدة لقيام دولة اسرائيل (أي دعم الدول الكبرى الاربع). وكانت النتيجة التي نعرف والتي ما زال العرب والشعب الفلسطيني على الأخص يدفع ثمنها غاليا حتى يومنا هذا.

ان ما اقدمت عليه اسرائيل في غزة عدوان بكل معنى الكلمة. ولا يمكن لأي انسان عربيا كان ام غير عربي الا ان يستفظعه ويدينه. وحتى الدول التي لم تعف حماس من مسؤولية اطلاق الصواريخ على اسرائيل، اعترفت بان الرد الاسرائيلي كان غير متوازن مع حجم اضرار الصواريخ الفلسطينية. الموقف الوحيد الذي اتفق عليه الجميع هو وقف اطلاق النار. وسيتوقف. لأن الخيار الآخر هو نشوب حرب عربية ـ إسرائيلية جديدة. وهذا ما لا يريده احد في العالم بل هذا ما لا جدوى منه. ايا كان المنتصر عسكريا.

يبقى السؤال: ماذا بعد هذا الذي حدث؟

هل سيتوقف اطلاق الصواريخ من غزة الى اسرائيل؟ هل سيقرب ما حدث بين حماس والسلطة الفلسطينية ام سيزيد النزاع ضراوة؟ هل ستتقدم عملية السلام خطوة ام انها تراجعت خطوات، بل توقفت سنوات؟ وماذا بشأن المحادثات المباشرة وغير المباشرة بين إسرائيل وسوريا؟ هل علقت فقط، أم انقطعت نهائياً؟ وماذا وراء هذه الادانة المركزة على مصر، من قبل الاحزاب والتنظيمات الاسلامية في لبنان وغير لبنان؟

البيانات التي سوف تصدر عن اجتماعات الجامعة العرب او مجلس دول الخليج لن تحجب تباينات مواقف الدول العربية مما حدث في غزة، بل ومن مشاريع السلام. وما يسمى بجبهة الممانعة (سوريا ـ حماس ـ حزب الله ـ الجهاد الاسلامي ـ الاخوان المسلمون) وايران معها او من ورائها، لا تخفي خصومتها، كي لا نقول عداءها لمعظم الانظمة العربية الحاكمة.. فهل ينتظر من «الامة» العربية المنقسمة على بعضها والشعب الفلسطيني، المنقسم على نفسه، التأثير على المجتمع الدولي واتخاذ موقف موحد يردع اسرائيل ويكسب تأييد العالم؟

القتال سيتوقف في غزة غدا أو بعد غد. ولكن على أي مشهد مأساوي سوف يسدل الستار؟

لقد تعمق الشق الذي يفصل السلطة الفلسطينية عن حماس. والدول العربية المعتدلة الموقف عن الدول العربية والاسلامية الممانعة والرافضة لمشاريع السلام. ولقد فتحت جبهة جديدة على حدود غزة مع مصر. ولقد أعطي حزب الليكود فرصة لكسب الانتخابات والعودة الى الحكم.. وماذا اذا فاز الليكود وحماس في الانتخابات القادمة؟ هل سيتجدد القتال بعد تجابه «الصقور» الإسرائيليين والفلسطينيين؟ ليس بالضرورة. ولكن حلم السلام سوف يؤجل تحقيقه اربع سنوات اخرى على الاقل.

لقد اقترح العقيد القذافي ـ كعادته في المفاجآت ـ سحب مبادرة السلام العربية تعبيرا عن الغضب العربي ولكن ما هي نهاية الطرق التي تدفع إليها مشاعر الغضب؟ وهل تتقرر مصائر الشعوب بالرفض والتظاهر والمواقف المتشنجة وتحريض الشعوب على حكامها؟ لقد فعل لينين ذلك عندما انتهز الحرب بين المانيا وروسيا، كي يعود الى بلاده ويشعل الثورة التي اطاحت بالحكم. وهناك، اليوم، لسوء الحظ، اكثر من لينين يقدم اسقاط الانظمة العربية على اقامة دولة فلسطينية، تعيد الى الشعب الفلسطيني حقوقه الانسانية..

لقد امضيت، كملايين العرب، عدة ايام، امام شاشات التلفزيون متابعا مأساة ابناء غزة، والتظاهرات التي قامت في بعض العواصم العربية، والتي رفعت فيها شعارات مسيئة لبعض الدول العربية، بتحريض من احزاب او جماعات متطرفة في عقيدتها السياسية. وتساءلت: هل انقلب التعاطف مع الشعب الفلسطيني الى سبب او ذريعة للتهجم على دول عربية شقيقة، كل ذنبها انها تؤمن بالسلام وترفض المغامرات العسكرية في الظروف العالمية الراهنة وتدرك ان الولايات المتحدة، وهي اقوى دولة في العالم، وغيرها من الدول الكبيرة، ضامنة عسكريا لسلامة اسرائيل؟ ناهيك من امتلاك اسرائيل للسلاح النووي؟!

ان مقاومة الاحتلال الاسرائيلي واجب وضرورة. ولكن اساليب المقاومة وغاياتها لا تقل اهمية عن مبدئها. وهناك عشرات الاساليب والطرق لمقاومة الاحتلال، بل لتمكين الشعب الفلسطيني من اقامة دولته واستعادة حقوقه غير تلك التي تعتمدها حماس والأنظمة او التنظيمات العقائدية الراديكالية، والتي تمر بعمليات غايتها إحراج الانظمة العربية الحاكمة امام شعوبها، تمهيدا لزعزعتها واقامة انظمة حكم عقائدية محلها. ايا كان عدد الضحايا الذين سيسقطون على الطريق.

ان الخطوة الاولى والوحيدة لتقدم القضية الفلسطينية ولإقناع العالم بدعم قيام الدولة الفلسطينية بالشروط الفلسطينية، هي توحيد الصف الفلسطيني. وانها لمهمة صعبة جدا بعد الذي حدث في غزة وردود الفعل عليه في فلسطين بل في العواصم العربية. اما الخطوة الثانية فهي التمسك بالمبادرة العربية للسلام.

اما استفظاع العدوان الإسرائيلي وإدانته، والتظاهر في الشوارع ولوم الحكومات العربية على «تقاعسها»، فليس بظاهرة جديدة. سواء كان الضحايا عشرات او مئات.