تقرير فاتر من باريس

TT

خلص التقرير الذي طال انتظاره، والذي أعدته الجمعية العامة الفرنسية (البرلمان) وقدمته للرئيس نيكولاي ساركوزي في الأيام الأخيرة من عام 2008 إلى أن إيران أصبحت «على مرمى حجر» من تأمين جميع احتياجاتها لصنع رأس نووي. ويعد هذا التقرير ثمرة جهد مشترك ترأسه جان لوي بيانكو، العضو الاشتراكي البارز في البرلمان، والمستشار السابق للرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران في الثمانينات والتسعينات. ويرتكز التقرير على بحث عميق قام به مجموعة من الخبراء الفرنسيين البارزين في السياسات الدولية والانتشار النووي، وبينهم فرانسوا هيسبورج وتيريز دلبيتشي.

لم يجد التقرير الاهتمامَ الذي يستحقه لأنه صدر وعام 2008 يلفظ أنفاسه الأخيرة، والعالم مشغول بالأزمة المالية. وأكد التقرير ـ انطلاقًا من تحليله للاستراتيجية الإيرانية ـ أن الجمهورية الإسلامية ستكون عضوًا فاعلاً في النادي النووي بنهاية عام 2011 في الأقل. كما شدد على أن عام 2009 سيكون العام الأخير الذي سيكون بإمكان الدول الغربية خلاله إقناع طهران بعدم صنع القنبلة. وما يميز التقرير الفرنسي عن المقالات الافتراضية الأخرى هو محاولته تخمين النوايا الإيرانية، مستخدمًا في ذلك المعلومات الصادرة عن الحكومة الإيرانية. ولم يكن هدف التقرير إثارة الرأي العام العالمي في محاولة تأليب الرأي العام العالمي ضد إيران. ولم يكن من الواضح الأثر الذي يمكن أن يحدثه التقرير على فرنسا أو خارج حدودها والاستراتيجية الغربية للتعامل مع النظام الخميني. كان المسار الرسمي يشير إلى أن الدول الغربية لن تسمح لإيران بامتلاك القوة النووية، كما قال ذلك الرئيس الأميركي جورج بوش في بداية عام 2002، وقد كرر الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي ذلك مطلع هذا الشهر، أما الرئيس الأميركي المنتخب باراك أوباما فقد أحدث نفس الضجة في الفترة التي لم يتحدث فيها عن التفاوض مع الملالي دون شروط مسبقة.

يقدم التقرير الجديد للقوى الغربية وإدارة باراك أوباما المقبلة رؤية مختلفة ومدى مختلفا لتسارع التحدي النووي الإيراني. ويزيل التقرير افتراضين أساسيين، وهما أن طهران كانت ـ قبل عدة سنوات أو ربما قبل ما يزيد عن عقد من الزمان ـ بعيدة عن نقطة الانطلاق إلى النادي النووي، وأن القيادة الخمينية لم تكن قد اتخذت قرارها بعد ببناء ترسانة نووية. وأن بانتهاء تلك الافتراضات أصبحت الدول التي لا ترغب في أن تكون إيران دولة نووية مواجهة بخيارين: إما بقبول ما هو محتم أو منعه. وفي كلتا الحالتين، فإن السياسة الحالية التي تعتمد على التهديد لم تعد خيارًا جيدًا. وإذا ما تم قبول إيران كقوة نووية فإن تمرير قرارات عقابية وفرض مزيد من العقوبات أمر ليس له معنى.

من ناحية أخرى، إذا ما تقرر أن يتم وقف طهران قبل الوصول إلى القنبلة النووية مهما كانت التكاليف، تبرز الحاجة إلى تبني مبادرة دبلوماسية جريئة أو عمل عسكري. وللوهلة الأولى، بدا كما لو أن الولايات المتحدة تتجه إلى قبول المحتم وتحاول إدارة عواقب ذلك، وقد جاءت إحدى الإشارات الدالة على ذلك خلال الشهر الماضي عندما عرضت كوندوليزا رايس على نظرائها العرب «مظلة» أميركية من السلاح النووي الإيراني.

يعكس مسار رايس موقف هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية في إدارة باراك أوباما المقبلة. وقد صاغت هيلاري الأمر بالقول: «أعتقد أن نظام الإعاقة لم يعد يستخدم بصورة فاعلة في الآونة الأخيرة، وكنا قد استخدمناه بصورة جيدة خلال الحرب الباردة حينما كان العالم آنذاك ثنائي القطب وما أعتقد أن على الرئيس القيام به، وما يجب أن تكون عليه سياستنا هو أن نوضح للإيرانيين بأنهم سوف يواجهون برد عنيف وشامل إذا ما أقدموا على شن هجوم نووي على إسرائيل. إضافة إلى ذلك، فإن إيران إذا ما أصبحت قوة نووية فمن شأن ذلك أن يطلق سباق تسلح في المنطقة يمكن أن يكون خطرًا إلى حد بعيد ويهدد الاستقرار، لأن الدول في المنطقة لن ترغب في أن تكون إيران القوة النووية الوحيدة. ومن ثم، فإنني أعتقد أن هذه الدول سوف تسعى إلى الحصول على الأسلحة النووية أيضًا. ولكي نهدئ من روعهم، يجب علينا أن نسعى لعقد اتفاقية أمنية، يمكننا من خلالها القول لهم، كلا إنكم لستم بحاجة إلى امتلاك أسلحة نووية، وإذا ما كنتم عرضة لهجوم نووي غير استفزازي من إيران، فإن الولايات المتحدة وحلفاءها في الناتو سوف يردون على ذلك». يقف ذلك النهج الذي تتبناه كل من رايس وكلينتون على طرفي نقيض مع النهج الفرنسي والنهج الأوروبي الأشمل الذي يسعى لمنع إيران من امتلاك السلاح النووي.

قد يرفض الأميركيون تلك القسوة الفرنسية حول هذه القضية لأن التهديد لا يمكن أن يكون مدعومًا بعمل عسكري ذي مغزى. وفي المقابل، فإن فرنسا والاتحاد الأوروبي ككل يفقدون القوة العسكرية والتي بدونها لن تكون الدبلوماسية الحازمة ذات قيمة أكثر منها عديمة الفائدة.

غير أن الموقف الفرنسي الذي أثار بالفعل غضبَ طهران يمكن أن يقدم أسسًا لإطار عمل جديد من العمل المشترك للأطراف المعنية المهتمة بوقف الجمهورية الإسلامية من العبور إلى باب القنبلة النووية. ربما لا يزال أوباما يسعى إلى محادثات مباشرة مع نظام طهران، لكنه يجب أن يوضح في ذات الوقت أنه غير مستعد للخوض في حوار لا يتم التوصل فيه إلى اتفاق. ويتضمن التقرير المدى الزمني الذي تصل فيه طهران إلى نقطة اللا عودة، حيث حدده بعام أو نحو ذلك.

سيحاول الملالي في طهران استخدام كل تكتيكات الإعاقة الممكنة التي عملوا على تطويرها خلال العقود الثلاثة الماضية، فسوف يعمدون إلى مدح وسب أوباما لجعله يرقص على إيقاعهم، وستكون هناك محادثات ومحادثات، ثم محادثات تمهيدية ثم تتبعها محادثات بناء ثقة ثم يخرج علينا جود تي في ليبرهن على الرؤية الثاقبة والحكمة العميقة لأوباما في مقابل دبلوماسية «الكاوبوي» التي انتهجها سلفه بوش. ستظل الساعة الحقيقية تدق في كل الأوقات باتجاه القنبلة النووية الخمينية، وهذا هو ما أراد تقرير بيانكو الفاتر أن يبلغ به العالم.