صراعات التثبت والاستقطاب من حول مأساة غزة

TT

أمام هول الكارثة الإنسانية الواقعة بغزّة، ما عاد يمكن تبيُّنُ أهداف حماس ولا أهداف إسرائيل. فوزيرة الخارجية الإسرائيلية في الحكومة المستقيلة تسيبي ليفني كانت قد قالت بالقاهرة، إنه لم يعد يمكن قَبول سيطرة حماس على غزة! لكنّ العمليات الإسرائيلية التي قتلت وجرحت المئات، وخرَّبت الحياة المدينية بغزّة، لن تؤدّي إلى إضعاف حماس أو إزالة سيطرتها. وقد بدأ أنصار الحركة في فلسطين والعالم العربي وإيران يتحدثون عن صمود حماس وقوة بنيتها واستعصائها على التدمير. ورغم أنّ هذه الدعاوى قديمة في العالم العربي، ولدى التنظيمات الثورية الإسلامية؛ أي ادعاء الانتصار في كل نزاعٍ بالداخل أو مع إسرائيل؛ فالواقعُ أنّ قوة حماس ليست ناجمة عن انتصاراتها على إسرائيل؛ بل هي ناجمة عن ضعف خصومها الداخليين، وتضاؤل قدراتهم، بحماس وبدون حماس. وهكذا فقد لا يكونُ هناك سببٌ للمذابح الإسرائيلية في غزّة غير الاعتبارات الانتخابية، وليس محاولة تدمير حماس. فحزب كاديما الذي تتزعمه ليفني، وحزب العمل الذي يتزعمه باراك وزير الدفاع في الحكومة المستقيلة، كلاهما، يخشى الهزيمة في الانتخابات أمام نتنياهو زعيم الليكود، وتحالفاته الدينية والقومية. وهم يعتقدون أنّ إظهار الحرص على المستوطنات الإسرائيلية على مقربةٍ من غزة، قد يقوّي من شعبيتهم في الانتخابات. وهذا الأمر يقول الشيء الكثير عن الرأْي العامّ الإسرائيلي، وعدم ميله للتسوية والسلم مع الفلسطينيين، رغم كلّ خطابات وتحركات بيريز وأولمرت في الشهور الأخيرة.

إنّما لماذا حصل ما حصل على الطرف الآخَر، طرف حماس؟ فمنذ مطلع نوفمبر الماضي، رفضت حماس السير في الحوار بالقاهرة بحجة وجود معتقلين من الحركة في قبضة السلطة الفلسطينية بالضفة. ثم عندما انتهت التهدئة في 19/12 أعلنت حماس (والفصائل المتحالفة معها) عن عدم إرادة تجديدها. واقترن ذلك ليس بالبدء بإطلاق الصواريخ باتجاه المستوطنات الصهيونية فقط؛ بل وبالحملة الشعواء على مصر، بحجة إقفالها لمعبر رَفَح. وقد سبقت ذلك ـ وللمرة الأولى منذ سنوات ـ حملة إيرانية مباشرة على مصر بالتظاهر في طهران، وإحراق مكتب المصالح المصرية هناك، والتجمعات في ضواحي بيروت، وأمام السفارة المصرية بالعاصمة اللبنانية من جانب حزب الله وحلفائه في الأحزاب والتنظيمات، والحملات في تلفزيون المنار، والتي بلغت الذروة في خطاب السيد حسن نصر الله عشية عاشوراء.

وليس من عادة إيران في السنوات الأخيرة، التدخُّل عَلَناً بالكلام المباشر ضدَّ السعودية وضدَّ مصر. بل كان السيد نصر الله هو زعيمُ السياسات الإيرانية في العالم العربي من الناحية الإعلامية. إنما هذه المرَّة حدثَ ما لم يكن يحدُثُ من قبل، أو منذ العام 2006 على الأقلّ، أي بالهجوم الإيراني المباشر على مصر. وتقديري أنّ ذلك كان لأربعة أسباب؛ أولها تقدُّمُ مساعي وجهود التسوية بعد أن بدأ المسؤولون الأميركيون والإسرائيليون أيضاً يتحدثون عن المبادرة العربية للسلام الشامل، وقد بلغ ذلك الذروة في التوافُق الأميركي/ الروسي على القرار الدولي رقم 1850 قبل شهر. والسبب الثاني: حضور العرب الخليجيين في اجتماع السُداسية بنيويورك بشأن الملفّ النووي الإيراني، وظهور أصوات عربية تقول إنه لا مصلحة للعرب في حصول إيران على السلاح النووي. والسبب الثالث مصير سورية حليفة إيران الاستراتيجية إلى التفاوض غير المباشر مع إسرائيل، وإمكان تحول ذلك إلى التفاوُض مباشر، الذي أهم نتائج نجاحه: إقفال الطريق أمام حزب الله، وأمام المقاتلين الفلسطينيين وفي طليعتهم حماس. والسبب الرابع: تسارُعُ هذه الأحداث قبل بدء التفاوُض الأميركي/ الإيراني بعد تسلُّم أوباما للرئاسة؛ مما يتهدد المصالح الإيرانية الاستراتيجية. فقد حصل الإيرانيون على «رُزمة الحوافز» التي قدمتها السُداسية قبل ستة أشهر، وقالوا إنها لم تُرضِهِمْ. وهم يعتقدون أنهم جمعوا أوراقاً في العالم العربي في العراق وسورية ولبنان وفلسطين خلال العقد الماضي، ولا يقبلون أن يُحرَموا منها قبل الدخول في التفاوُض، بل يريدون بقاءها للاستعمال خلاله.

ولذلك فقد كان المُراد من دفع حماس باتجاه إطلاق النار من جديد، ثلاثة أمور: الضرب على وتر القضية الفلسطينية الشديدة الحساسية في العالم العربي، وأنهم مع نهج الكفاح المسلَّح لمواجهة إسرائيل. وهذا هو الموضوع الآخَر الذي أَكَّد عليه السيد نصر الله في خطابه السالف الذكر عندما قال إنّ هناك نهجين، نهج الكفاح من أجل التحرير، ونهج التسوية الذي ما جلب غير الاستسلام والخراب. والأمر الثاني المقصود من وراء دفع حماس لإطلاق النار إثبات فشل نهج التسوية، وعجز العرب الكبار عن حماية الشعب الفلسطيني حتى بواسطة أصدقائهم وحلفائهم، مما يؤدي إلى وقف مساعي التسوية أو سقوطها. وقد عبَّرت حماس عن ذلك بالقول إنّ الهدف هو «قلب الطاولة». وقد كان ذلك هو الموضوع الأول في خطاب السيد نصر الله عندما ركّز هجومَهُ على مصر، واعتبر أنها ما لم تفتح معبر رفح، فهذا يعني أنّها تشارك إسرائيل في الاحتلال والحصار! فالمقصود من جانب الإيرانيين وحلفائهم إبقاء موضوع فلسطين رهينةً بارتهان الحركات الثورية الإسلامية، ونشر الانقسام من حول مصر ومن حول المملكة العربية السعودية. والأمر الثالث: تحذير سورية من شيئين: المُضيّ في التفاوض أو محاولة سدّ الطريق على حزب الله والمسلَّحين الآخَرين من طريقها.

وبهذا المنظور والتقدير؛ فإنّ بعضاً من تلك الأهداف قد تحقّق مبدئياً. إذ العرب حائرون الآن في كيفية الوصول إلى وقْف إطلاق النار، وحائرون في كيفية التعامُل مع حماس بعد بروز تبعيتها لإيران، وشعبيتها بين الحركات الإسلامية في الوطن العربي، وحائرون أخيراً في كيفية تكييف الموقف باتجاه العودة إلى الهدوء والتفاوُض؛ ومن ضمن الحيرة الأخيرة الانقسام بشأن مؤتمر القمة ـ والمعروف أنّ حزب الله والحركات الإسلامية الأخرى ما كانت ترى خيراً في مؤتمرات القمة، لكنها هذه المرة متحمسة له، لأنها تعتقد أنه يُظهر الانقسام الرسمي العربي، ويُضْعِفُ من مرجعية مصر في غزة، وفي القضية الفلسطينية. ومن جهةٍ أُخرى؛ فإنّ تركيا قد أعلنت عن توقُّف الوساطة التركية بين إسرائيل وسورية بسبب الأعمال الإسرائيلية في غزّة.

فإذا كان المقصود: عرقلة التسوية أو تأخيرها، وإبراز ضعف النظام العربي، وقدرة إيران على الامتداد داخل العالم العربي، ومنع سورية من مُغادرة المعسكر؛ فإنَّ ذلك كلَّه تحقق مبدئياً على الأقلّ. ولذلك لا يبدو أنّ إيران تميلُ لفتح جبهة جديدة من طريق حزب الله؛ وليس لأنَّ الأهداف القريبة تحققت وحسب؛ بل ولأنّ استمرار المذابح الإسرائيلية عارٌ وفضيحةٌ للعرب، وتسخيفٌ لكلّ تفكيرٍ في السلام مع إسرائيل، من جانب سورية أو غيرها!

ولنعُدْ إلى الطرف الآخر. فيوم الأربعاء انعقد مجلس وزراء الخارجية بالقاهرة، وأمامه عدة موضوعاتٍ شائكة: وقف إطلاق النار، ومعالجة مسألة الخلاف على القمة، والوصول لإعادة التفاوُض بين حماس والسلطة الفلسطينية. وهناك حديثٌ عن مبادرة أوروبية لوقفٍ مؤقَّتٍ للنار لأسباب إنسانية. وحديثٌ آخر عن مبادرة للرئيس بوش ذات خمسة بنود: وقف النار من الطرفين، والتأكيد على القرار رقم 1850 بالعودة إلى التفاوُض من أجل السلام وإقامة الدولة الفلسطينية، والتأكيد على المبادرة العربية للسلام، وفتح المعابر مع غزة كلّها بحسب اتفاق العام 2005، ووجود عربي ودولي بقطاع غزة لضمان وقف النار، وفتح المعابر. وهذه المبادرة أو الأفكار تقدم بها الأميركيون إلى إسرائيل والسلطة الفلسطينية ومصر. وما أجابت عليها إسرائيل بعد، وحماس تقول إنها ما تبلغت بها ولا بالمبادرة الإنسانية الأوروبية!

وفي الختام هناك عدة ملاحظات؛ أولها وأهمُّها أنّ الإسرائيليين لا يمكن الاعتمادُ عليهم في التهدئة ولا التسوية، وهم مستعدون لارتكاب أفظع المجازر لأسخف الأسباب، مثل صورايخ حماس التي لا تقتل أحداً تقريباً. وثانيها أنّ الحركات الثورية الإسلامية وغير الثورية (ربما باستثناء القاعدة!) كلُّها صارت بيد إيران، بما في ذلك أكثر جماعات الإخوان المسلمين. وثالثة تلك الملاحظات أنّ «التسوية» إن جرت العودةُ إليها، لا تقلُّ تكلفتُها وأعباؤها عن «الحرب». والعربُ حتى الآن يدفعون وحدهم: تكاليف الحرب الواقعة، والتسويات الموعودة!

«والله غالبٌ على أمره، ولكنّ أكثر الناس لا يعلمونْ».