حرب غزة.. والانتصار الأخلاقي المطلوب

TT

كتب المؤرخ الإسرائيلي المعروف توم سغيف في صحيفة «هآرتس» معلقا على الجرائم الإسرائيلية الأخيرة في غزة، إن هذه الحرب العقيمة والفظيعة تعكس موقفا ثابتا لدى المؤسسة الصهيونية خلاصته أن الإسرائيليين يمثلون الأنوار والتقدم، ومن حقهم فرض شروطهم على العرب الذين ليسوا سوى همجا متوحشين، أو أطفالا قصرا يحتاجون الى دروس أخلاقية صارمة ليجنحوا للسلم.

ويرى سغف أن كل الحروب الإسرائيلية فشلت في الغرض المعلن منها وهو التحكم في الحركة الوطنية الفلسطينية وإلزامها بالرؤية الصهيونية للسلام التي لا تتجاوز إعطاء سكان الأراضي المحتلة عام 1967 صلاحيات بلدية محدودة ولو في شكل دولة معترف بها عالميا.

صحيح أن العدوان الراهن ليس على فظاعته سوى حلقة مكررة من جرائم الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في المناطق الفلسطينية منذ تأسيسها عام 1948، بيد أن الظروف الحافة للحرب الراهنة تحمل بعض الخصوصيات في ما وراء الثوابت التي نبه اليها سغيف في مقالته التي اشرنا اليها. ومن هذه الخصوصيات نذكر اتجاهين بارزين هما:

ـ استهداف طرف واحد من أطراف الحركة الوطنية الفلسطينية هو حكومة حماس التي انفصلت عن السلطة المدعوة بالشرعية، في سياق انقسام داخلي فلسطيني غير مسبوق، لا شك ان له دورا محوريا في التصعيد الحالي. ففي الانتفاضتين السابقتين كان الشارع الفلسطيني موحدا ومتمحورا حول قيادة واحدة، أما اليوم فقد أصبح الاستقطاب الداخلي الفلسطيني عاملا رئيسيا من عوامل الأزمة وعائقا خطيرا دون احتوائها.

ـ تحول المواجهة الراهنة من نمط الانتفاضة المألوف فلسطينيا إلى حرب حقيقية بحسب نموذج حرب حزب الله اللبناني مع إسرائيل عام 2006، وإن اختلف السياق. فمن الواضح أن حكومة حماس استطاعت على الطريقة اللبنانية تطوير عدة عسكرية ملائمة لحرب المدن في مواجهة التفوق العسكري الإسرائيلي الكاسح، متلمسة نتيجتين مترابطتين هما: إلحاق الهزيمة الأخلاقية بالجيش المعتدي بتوجيه الاهتمام الى جرائمه ضد المدنيين العزل التي تتم تحت أضواء الإعلام الفضائي المباشر وفي الآن نفسه تأجيج روح الخوف والامتعاض لدى الإسرائيليين بتأمين رد غير متكافئ على الماكينة العسكرية الإسرائيلية عن طريق إطلاق الصواريخ على المدن المحاذية للقطاع المحتل.

ومن الواضح أن حسم المعركة الجارية لن يكون عسكريا، بل سيكون أخلاقيا ورمزيا. ولذا ندرك كيف ان إسرائيل توظف «الحجتين» الأساسيتين اللتين تقوم عليهما دعايتها وهما: دمج حربها العدوانية ضمن المنظور الاقليمي والدولي لمواجهة التطرف والإرهاب، واستثمار الانقسام الداخلي الفلسطيني لتبرير استهداف حكومة حماس باعتبارها انفصالية وفاقدة للشرعية الوطنية والدولية.

نحتاج في مواجهة هذه الحجج الواهية إلى استعادة وحدة الصف الفلسطيني، مع الإدراك الكامل بان مدار المعركة هو الوصول الى الوعي الإنساني للشعوب الغربية الذي هو القوة الضاغطة على سياسات القوى الدولية الكبرى التي لن تتحرك ايجابيا لصالحنا ما لم تصبح القضية الفلسطينية من مكونات هذا الوعي.

وقد كان المفكر الفلسطيني ـ الأمريكي الراحل ادوارد سعيد يكرر دوما، ان العجز الفلسطيني والعربي عن استقطاب الشارع الأمريكي والغربي إجمالا ناتج على أننا نعرض القضية الوطنية الفلسطينية بقاموس الحقوق الدينية والقومية، في الوقت الذي نغفل جوانبها الإنسانية بصفتها مأساة إبادة لبشر لهم نفوس وأجساد ومنازل قبل أن يكونوا عربا أو مسلمين.

ومن المثير ان العرب لم يستفيدوا من التحولات المعيارية والقانونية الجديدة التي غيرت في السنوات الأخيرة بنية التشريعات الدولية، بتحويلها جرائم الإبادة وانتهاكات حقوق الإنسان الى جرائم ضد الإنسانية تتجاوز قيود السيادة القضائية المحلية، بالرهان على الاستقلالية الفعلية للقضاء الأوروبي الذي أصبح مختصا في هذه الجرائم بغض النظر عن هوية مرتكبها وعن مسرح الجريمة.

ويجب أن لا ننسى ان صورة الشهيد الطفل محمد الدرة كانت أقسى واشد وقعا على إسرائيل من تفجيرات المقاهي والباصات في تل ابيب، كما يجب ان لا ننسى ان المعادلة الديمقراطية المستقرة في الكيان الفلسطيني الموحد هي الدعامة الموضوعية للدولة الموعودة.