رضينا بالهم والهم ما رضي بينا

TT

بيني وبين التلفونات الثابتة والمحمولة علاقة يشوبها الحذر والتردد وعدم الألفة، اشعر أنها تطاردني، وتقتحم عليّ خلوتي، ولا تتركني بحالي، لهذا أنا فعلاً أخشاها ولا أقيم لها الكثير من الود، رغم أنها أحياناً تنقذني وتسعفني وتختصر لي وقتي ومشاويري ومسافاتي. ولكن لي معها مواقف وتجارب تعيسة وغير مشرفة، وهذا هو ما دعاني للكلام السابق الذي قلته عنها، وقد يكون البعض مروا بالتجارب التي مررت بها.

فما أكثر ما كنت مستمتعاً بالقراءة أو الرسم أو سماع الأغاني أو صحبة بعض الأصدقاء أو ما شابههم، وإذا بالتلفون (يلجلج) مقتحماً منزلي بدون مقدمات أو استئذان، وأكون مرغماً على الإسراع بالرد عليه، وإذا بالمتصل إنسان ثقيل لو شاهدته في الشارع من بعيد لوليت الأدبار منه فراراً، وتكون الطامة أكبر لو انك كنت في داخل الحمام تريد أن (تتبغدد) بالدش الساخن (فيعوي) ذلك الجهاز الرهيب بأعلى ما في حنجرته من صوت وكأنه طفل رضيع يحتاج لمن يحمله أو يغيّر له أو يضع في فمه (المصاصة)، قد تنطلق راكضاً كالمعتوه أو كفقراء الهنود محاولاً ستر عورتك بما تيسر لك من مناشف، وقد تسقط أو تتعثر أو تتزحلق قبل أن تصل إلى (المضروب) وترفع السماعة، فيأتي لك صوت ثور ضعيف البصر يعتذر لك بكل بساطة انه غلطان بالنمرة.

أو تطلب أنت شخصاً معيناً فلا يرد عليك وإنما يتركك تحت رحمة آلة التسجيل يريد أن يشنف بها سمعك لعدة دقائق إما بدعاء حفظته أنت عن ظهر قلب، وإما بموسيقى تمجها أذنك ونفسك معاً، أو بطلبه منك أن تترك اسمك ورقم تلفونك، وغالباً بل ودائماً ما كنت أغلق الخط أو (ارزع) السماعة حالما اسمع آلة التسجيل، لأنني بصراحة أكون في هذه الحالة بقمة (حماقتي) المعهودة عني.

وبالأمس كنت أتحدث مع أحدهم مرغماً لأن لي مصلحة مادية في محادثته، رغم انه (لا ينزل لي من زور)، ولكنها الحاجة لعنها الله هي التي جعلتني (أنخ)، بل واتضاحك وبين كل جملة وجملة احكيها كنت أقول له: (طال عمرك)، ولولا الخوف لما ترددت بأن أقول له بملء فمي: (يقصف عمرك)، وفوق ذلك القرف قرفني أكثر لأنه كان طوال مكالمته لي (يمضغ) الطعام و(يتلمظ) به، وعرفت لاحقا انه كان يأكل (الجريش).

وينطبق على ذلك الرجل المثل القائل: (رضينا بالهم والهم ما رضي بينا)، لأنني دفقت (ماء وجهي) من كثرة ما اتصل به، ويأتيني الجواب المتكرر دائماً: (الشيخ غير موجود)، بل إنني في إحدى المرات سألني (سنترال) البيت عنده قائلاً: من المتكلم؟، فقلت له اسمي، فنطق به بصوت مرتفع، فسمعت صوت الشيخ يأتيني من بعيد: قل لهذا (العّلة) إنني (مسافر)، ومع ذلك قلت للسنترال وكأنني ما سمعت: (يرجع بالسلامة) إن شاء الله.

وأكثر ما (يرفع ضغطي) عندما اتصل بأحدهم فيرد عليّ طفله الصغير الذي يحاول أن يتعلم الكلام على حسابي، وتتصل بآخر فترد عليك سكرتيرته المغنّاج وهي (تمضغ اللبانة) وتتباسط معك في الكلام وكأنها تريد منك أن تعاكسها أو تتغزل بخلقتها الكريهة، وأنت ما أنت طايق حتى نفسك. وأسخف إنسان واجهته قبل أيام في مجلس محترم، وطلب مني هو رقم تلفوني المحمول وأعطيته له بكل سذاجة وعبط، وعندما طلبت منه في المقابل أن يعطيني رقم تلفونه، فاجأني (بقواية عين) ورزالة ما بعدها رزالة معتذراً عن إعطائي رقمه قائلاً بكل بجاحة: آسف إنني لا أعطي أحداً رقم تلفوني لأني بكل صراحة لا أحب الإزعاج، فما كان مني إلاّ أن اطلب منه (بزعل) أن يعيد لي رقم تلفوني، فتناول الورقة التي كتب فيها الرقم، وقذفها بوجهي، وكادت تحصل بيننا خناقة لولا أن الحاضرين من حسن الحظ تدخلوا وافتكونا من بعضنا البعض.

[email protected]