إعادة (تكييف) القضية والصراع في صورة غير ممزقة

TT

لا مهرب من التعرض لـ (طريقة التفكير) في كل حدث. ونازلة تقريبا.. فالتفكير الخاطئ هو أعظم أسباب التخلف والأزمات.. يضاف إلى ذلك: ان الأحداث ينبغي أن تكون أمثلة للتدليل الحي الناجز على طرائق التفكير الخاطئة: ابتغاء تسديدها ما أمكن، ثم نحن ـ في حقيقة الأمر ـ أمام (أزمة التفكير في الأزمة).. ولئن وصف المستشرق الشهير (جب) العقلية العربية (الإسلامية) بأنها (عقلية ذرية)، أي مجزأة، مفتتة لا تنظر إلى الأشياء إلا وهي في حالة (تذرية) متطايرة: لا يجمعها خيط، ولا تؤلف بينها رؤية متماسكة، ومن ثم يغرق هذا العقل في (التفاصيل) في كل مرة.. لئن قال جب هذه المقولة، فإن خطأ تفكيره ـ هو ذاته ـ يكمن في (التعميم) فحسب!! وإلا فإن هناك عربا ومسلمين ينطبق على عقولهم هذا الوصف!.. إنه لم تكد محرقة غزة تشتعل حتى (جزّئت) القضية، وغرق أقوام في التفاصيل الملهية عن جوهر المأساة والكرب، فقد صورت القضية أو المأساة بأنها صراع بين فتح وحماس، أو بين حماس ومصر، أو بين أطراف اقليمية. وهذه طريقة ممزقة في التفكير ينطبق عليها وصف المستشرق جب الآنف.

ولأجل إعادة تكييف القضية والمأساة والصراع في صورة غير ممزقة، نكتب هذا المقال: كاجتهاد فكري سياسي: لعله يسهم في الخروج من دوامة (التفكير الذري) والغرق في التفاصيل إلى رؤية متماسكة مؤلفة من منظومة مفاهيم هي:

1 ـ القضية الحقيقية هي: صراع طويل ـ اقترب من قرن كامل ـ بين أصحاب أرض وحق هم الفلسطينيون، وبين محتلين للأرض مشردين للشعب، مضطهدين له: ماديا ومعنويا: بالقتل والتجويع والحصار والإذلال، وهم الإسرائيليون.. وكل تفصيل يطغى على هذه القضية أو يعتم عليها أو يلهي عنها: يندرج في (التضليل السياسي والإعلامي): بسذاجة ذات حسن نية، أو بخبث عظيم.

2 ـ هذه القضية ابتليت ـ مذ كانت ـ بعلتين قاتلتين: علة الاحتلال ذاته.. وعلة إفساد القضية بـ (التدخلات غير الفلسطينية في الشأن الفلسطيني).. فالفلسطينيون لم يدعهم أحد وشأنهم، بل هناك من تدخل ـ ولا يزال يتدخل ـ، من العرب وغير العرب في صميم شؤونهم: كل بهواه وحساباته وأهدافه التي لا علاقة لها ـ بمقياس الصدق والنزاهة والجد ـ بالقضية الفلسطينية، ولا بمصائر الشعب الفلسطيني.. هذه علة قاتلة أصابت ـ بفداحة ـ عافية القضية الفلسطينية منذ مهزلة حروب الجيوش العربية عام 1948 وإلى اليوم.. بيد أن المؤرخ السياسي لهذه القضية سيلتقي بصوت أو موقف استثنائي واضح وقوي في وقت مبكر وهو موقف الملك عبد العزيز. فقد نصح هذا الزعيم الكبير ذو البصيرة السياسية المجلوّة والمستقلة: نصح العرب بأن يدعوا الفلسطينيين وشأنهم، وألا يتدخلوا في شؤونهم الخاصة الحساسة ـ السياسية والعسكرية بالذات ـ .. وقد يقال: إن هذا الموقف ينطوي على التخلي عن دعم القضية الفلسطينية.. وهذه مقولة لا تكاد تلتمع حتى تتبدى فيها نزعة المزايدة، وحتى يبطلها ما يضادها، فقد دعم الملك عبد العزيز القضية الفلسطينية (في ظل مناداته باستقلال الشأن الفلسطيني).. نعم.. لقد ساند هذا الرجل القضية: كما لم يساندها زعيم آخر.. ساندها بالموقف السياسي والدبلوماسي الواضح والشجاع المثابر (وفي التاريخ السياسي للقضية الفلسطينية وثائق: توثق هذا الموقف) وساندها بحض الشعب السعودي وتمكينه من تقديم العون المالي والعيني للشعب الفلسطيني.. وكان من مقاصد (دعوا الفلسطينيين وشأنهم): ترسيخ الثقة بأن الفلسطينيين قادرون على إدارة شؤونهم بأنفسهم وهي ثقة تبطل مزاعم الصهيونية التي تقول: إن فلسطين أرض بلا شعب!!.

3 ـ بطريقة غريبة جدا: جرى عزل (المحرقة الصهيونية) في غزة عن السلوك الإسرائيلي منذ قيام الكيان الصهيوني، بل قبل قيامه. على حين أن الحقيقة المادية الموضوعية تقول: إن هذه المحرقة إنما هي (وثيقة دامية جديدة) توثق وتوكد: ان اسرائيل لم تتغير قط، وان هذا هو سلوكها الوحشي الدامي: من دير ياسين إلى محرقة غزة: وما بينهما من مذابح ومحارق.. ومما هو أشد غرابة: ان الصهيونيين الذين (يلزمون) العالم بتنشيط ذاكرته دوما وتركيزها على المحرقة النازية لليهود، يعمدون ـ في الوقت نفسه ـ إلى تغييب الذاكرة العالمية والعربية عن محارقهم في فلسطين.. والأشد.. الأشد غرابة: ان عربا من العرب: استجابوا للمخطط الصهيوني في تغييب الذاكرة العربية عن محارق الصهيونية فاجتهدوا في التغييب!!.. واستحضار السلوك الإسرائيلي الدموي: يجعل محرقة غزة حلقة من حلقاته. وبذلك تتكون رؤية موضوعية متماسكة، تربط الحاضر بالماضي.. ثم بالمستقبل.

4 ـ وبمناسبة المستقبل: قد يتصور أقوام: ان القضاء على المقاومة في غزة (وهي أشمل من أن تحصر في حماس) يفتح الطريق ـ بالضرورة ـ إلى السلام الحق المكين الشامل الذي تنعم فيه المنطقة بطعم الأمن والاستقرار والسعادة.. وهذا وهم ضخم تنقضه وقائع تاريخ الصراع العربي مع إسرائيل.. فإسرائيل قضت على الجيوش العربية التي شاركت ـ بصورة رئيسة مباشرة ـ في حرب 1967. ولم يعقب ذلك سلام حيث ان اسرائيل لا تريد السلام الحق.. والدليل الإضافي أن العرب وافقوا على (نتائج) الانتصار الإسرائيلي في حرب 1967، إذ وافقوا على القرار 242 وهو قرار يعترف ـ في جوهره ـ بإسرائيل، أي بحق إسرائيل في الأرض الفلسطينية التي احتلتها عام 1967. بمعنى أن ما قبل حدود الرابع من يونيو من ذلك العام هو حق وحلال لإسرائيل!.. وفي السنوات الأخيرة: جدّ ما عزز هذا الاتجاه العربي العام.. ومن ذلك أ ـ مبادرة السلام العربية. ب ـ الوثيقة الفلسطينية (الجماعية) التي قررت اقامة دولة فلسطين في نطاق الأرض التي احتلتها اسرائيل عام 1967 فحسب!! ومن هنا، فإن من حق كل سياسي عاقل وبعيد النظر: أن يشك في توجه إسرائيل إلى السلام الحقيقي بعد القضاء (المفترض) على المقاومة في غزة.

5 ـ يتصل بالنقطة الآنفة سؤال: هل ما تفعله إسرائيل في غزة هو في صالح إسرائيل والقضية الفلسطينية وأنظمة المنطقة (وفق نظرة استراتيجية حضارية بعيدة المدى لا وفق نظرة حزبية أو انتخابية أو تقدير ساذج)؟.. بالتحرر من (العمى الاستراتيجي) يتوكد أن ما يجري في غزة إنما هو (تعبئة نفسية وفكرية وسياسية عالية الفولتات) لشرائح واسعة في المنطقة: تعبئتها بالسخط والتذمر وشحنات التطرف والعنف: بكل أنواعه وصوره.. فلأكثر من مرة عبأ العميان الاستراتيجيون ـ الإسرائيليون ومن معهم ـ المنطقة بمثل هذه العوامل الصاعقة، وكانت نتيجة التعبئة: اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى والثانية ـ على سبيل المثال ـ .. فالحل الوحيد ـ من ثم ـ لتفادي التعبئة المجنونة هو الغاء وجود الشعب الفلسطيني، وهو حل مستحيل بدليل ان النازي هتلر حاول الغاء وجود الشعب اليهودي بالحرق فلم يستطع.

6 ـ نحن نوقن ـ يقينا لا مجرد اقتناع ـ بأن الأصل في العمل السياسي هو (المرونة والتحرر المتعمد من التحجر وقصور الرؤية) وليس ثمة قيد على هذه المرونة إلا قيد الامتناع التام عن التفريط في الحق، وقيد (إعانة الظالم على ظلمه حتى لو كان شقيقا عربيا مسلما أو شقيقا لأب وأم، فكيف إذا كان الظالم من الأباعد؟.. وليس من العقل السياسي والضمير الأخلاقي في شيء: ان يتطوع أناس بمعاونة الظالم لكي يتعرضوا لعقاب الله عز وجل في العاجلة والآجلة «ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار».. ثم ان اعانة الظالم تتخطى المسألة الفلسطينية إلى تحطيم معايير الحق، وتقويض موازين العدل بإطلاق.. وهذه ليست سياسة راشدة قط، بل هي ردة حضارية إلى مجتمع الغاب والناب والافتراس والنهش.. وما من إنسان محترم ذي ضمير يرضى بذلك فضلا عن أن يمارسه.

7 ـ نفِّذوا المتفق عليه: الذي اعلنه الجميع في صيغ شتى وهو: وقف المحرقة.. ورفع الحصار.. وتقديم العون لهذا الشعب ـ الذي أثبت انه يستحق الحياة ـ .. ووحدة الموقف الفلسطيني.. ووحدة الموقف العربي. فهذا التنفيذ هو الذي يميز الجاد من الهازل، والصادق من الكاذب.

وتمام المقال: مفارقة مذهلة حانت فرصتها الزمنية والموضوعية. فيوم الثلاثاء المقبل يصوم المسلمون (عاشوراء) شكرا لله تعالى على نجاة موسى وقومه من فرعون وظلمه.. على حين أن فريقا من اتباع موسى اليوم وهو الصهيونيون يفعلون بالفلسطينيين ما فعله فرعون ببني إسرائيل من تعذيب وذبح واضطهاد وإذلال.