تأملات 2009 عن الفئران والبشر وبراءة الأطفال

TT

في تأملاتي للعام الجديد ولازلت على فراش المرض بسبب جراحة العمود الفقري في منتصف ديسمبر (وأشكر القراء الأعزاء على كلماتهم الرقيقة ودعوات الشفاء)، تذكرت دراسة (مجلة العالم الجديد New Scientist عام 1970) لباحثي طب السيكولوجيا في جامعة كاليفورنيا. وضعوا الطعام وسط متاهة معقدة من انابيب والطريق الاقصر المؤدي للطعام يمر بسلك خفي يسبب صدمة كهربائية؛ وطريق سالم اطول اكثر تعقيدا يؤدي للطعام.

سجل الباحثون عدد المرات التي يجربها الفار قبل ان يتعلم تجنب الطريق الاقصر بصدمته الكهربية، ويسلك الاطول الاكثر سلامة ليصل للطعام.

الفئران الأكثر ذكاء تعلمت الطريق بعد محاولتين وأغباها بعد خمسة محاولات؛ المهم ان جميع الفئران دون استثناء تعلمت سلك الطريق الآمن.

تجربة مقارنة على عينة من البشر تلخصت في تزويدهم بخريطة طرق غير مألوفة، اطول، واقل كثافة مرورية توصولهم لمقار عملهم اسرع من الطرق المألوفة المزدحمة في ساعة الذروة. الاغلبية الساحقة ظلت تسلك الطرق المألوفة وتلعن الزحام.

فكرت في التجربة بسبب صورة اصابتني بصداع في القلب والروح (فاق تأثيره اللحظي الصداع الذي لم يفارق رأسي منذ السبت الماضي، رغم اضافة الطبيب ثماني حبوب مسكنة للثلاثين حبة دواء الى جانب المورفين يوميا)، كانت في الديلي تلغراف الثلاثاء في الصفحتين اللتين أفردتهما الصحيفة للصراع الدموي العنيد غير المتكافئ بين الإسرائيليين وحماس (تغطية التلغراف كانت الافضل مهنيا في فليت ستريت).

الصورة لطفل لا يتجاوز عمره الثالثة، يقف بين الانقاض ممسكا في يد بما يبدو لعبته الاحتضانية «تيدي بير»، وفي الاخرى كيس غالبا يحتوي ما يعتبره الصغير اثمن ما استطاعت يده انقاذه من الدمار، وعيناه الواسعتان تحملان من التساؤل والاستغراب اكثر مما تحملان من الحزن، وإدانة «الكبار» من البشر.

لمحت الصورة دقائق بعد انهائي مقابلة هاتفية مع الـ«بي بي سي» تضمنت اجتهادي من تحليل سياسي، باعتباري، في تعريف الاعلام والمؤسسة السياسية البريطانيتين، احد مجموعة الخبراء البريطانيين المحدودة العدد في سياسة منطقة الشرق الاوسط التي غالبا ما يصعب شرحها للجمهور العادي بسبب السياسات التي لا تخضع للتحليل المنطقي المألوف للشعب البريطاني العقلاني.

شعرت بضآلتي، كخبير في سياسة المنطقة، وبعجز يفوق عجزي عن الحركة الجسدية، امام التساؤلات في عيني الطفل الصغير ولسان حاله يقول «وأنا مالي؟ حقي ان اكون الان مع اطفال مثلي في حضانة محاط باللعب والدمى والدب تيدي بير الذي احتضنه قبل النوم!».

سؤال لا اعتقد ان بإمكاني او اكثر خبراء العالم دراية بالمنطقة، او حتى ابويه تقديم اجابة مقنعة يقبلها منطقه البسيط البريء.

استعادت ذاكرتي الصورة التي لخصت معاناة المدنيين في الحرب الفيتنامية (1959-1975) لطفلة عارية تجري، ووراءها القرية تحترق. فارق 35 عاما بين التقاط الصورتين يشير لان البشر اكثر غباء من فئران كاليفورنيا.

في كل صراع يتكرر عدم اكتراث الساسة بالمدنيين، خاصة الاطفال الابرياء، في محاولتهم تحقيق اهداف سياسية غالبا مؤقتة ومحدودة الفائدة.

الإسرائيليون تنازلوا عن الشرط الاصلي باعتراف حماس بحق اسرائيل في الوجود، واستبدلوه بهدنة تنهي اطلاق الصواريخ من غزة على مدن اسرائيل.

الهدف السياسي فترة هدوء تمكن ائتلاف كاديما بزعامة تسيبي ليفني من الفوز في انتخابات الشهر القادم لاستكمال التفاوض مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس (كان الليكود بزعامة بنيامين نتانياهو متقدما على كاديما شعبيا بستة نقاط قبل الهجوم على حماس؛ وكان انتخاب نتانياهو 1996 ادى لعرقلة مسيرة السلام).

الاسرائيليون بأدق الاسلحة تصويبا يستهدفون مواقع اطلاق الصواريخ ومراكز حماس القيادية، ويحاولون تجنب اصابة المدنيين وتحذيرهم بمنشورات، وأحيانا بمكالمات هاتفية استباقية مباشرة في بيوتهم، حسب تصريحاتهم الرسمية.

لكن ضيق حواري غزة (واغلبها في الاصل معسكرات لاجئين بنيت بلا تخطيط هندسي) وتلاصق المباني يجعل نجاة مدنيين مجاورين لموقع أطلقت منه حماس صواريخها، واستهدفه صاروخ اسرائيلي حتى بدقة تصويب دائرة قطرها ستة بوصات، امرا شبه مستحيل.

وتتسع دائرة اصابة المدنيين اذا كان موقع حماس المستهدف، يحتوي متفجرات او حتى ذخيرة الشرطة، وهي الاكثر هلاكا بالنسبة للمدنيين ـ حسبما خبرت بنفسي اثناء تغطيتي عدة حروب ـ اذ تشبه انطلاق عشرات المدافع الرشاشة في آن واحد في كل الاتجاهات لمسافة تفوق ثلاثمائة متر.

الساسة الاسرائيليون يأسفون علنا معتذرين عن الأضرار المدنية (ترجمة غير دقيقة لـcollateral damage ) وكلمةcollateral تعني، في لغة الاقتصاد، العقار او ما يرهنه البنك كضمان الاقراض. العبارة، التي استؤصلت منها كلمة «انسان»، يستخدمها كل الساسة، على اختلاف جنسياتهم، الذين يصدرون اوامر الحرب لوصف الخسائر البشرية.

بماذا سيجيب الساسة (من الطرفين) سؤال الطفل: «لماذا؟»

أثناء تغطيتي الحرب، التي انجرت لبنان اليها، بين الفلسطينيين والاسرائيليين عام 1982، نشرت خبر وضع احد مستشاري الرئيس رونالد ريغان (1911-2004) على مكتبه صورة طفلة اصيبت بحروق بالغة من قصف اسرائيلي لمواقع وضعتها المنظمات الفلسطينية في مناطق سكنية في بيروت.

طلب ريغان رئيس الوزراء الاسرائيلي مناحم بيغيين (1913-1992) على التليفون وامر بوقف القصف فورا.

لم يكن الرئيس الامريكي طرفا مباشرا في حرب لبنان لكنه استخدم collateral damage بعد اربعة سنوات لوصف خسائر غير مقصودة عندما امر بقصف ثكنات العزيزية، مقر رئاسة الكولونيل الليبي معمر القذافي، عقب كشف التحقيق تورط المخابرات الليبية في حادث ارهابي في برلين راح ضحيته بعض الامريكيين.

زعماء حماس في التلفيزيون يتهربون من مسؤوليتهم في انهاء الهدنة، او نقضهم اتفاقياتهم مع المفاوضين المصريين، ويقسمون بالقتال لآخر رجل وامراة وطفل.

هل أجرى زعماء حماس استفتاء بين اهل غزة عن موافقتهم على الموت حتى «آخر رجل وامراة وطفل» مقابل تنفيذ حماس استراتيجية خططتها طهران لرسم أجندة استباقية لسياسة ادارة الرئيس باراك اوباما في المنطقة ؟

هل استأذنت حماس المدنيين في غزة، بمن فيهم اسرة الطفل الذي اصابتني صورته بصداع الروح، وضع منصات اطلاق الصواريخ فوق اسطح منازلهم، وتخزين المتفجرات ووقود الصواريخ في «بدروم» منازلهم ومساجدهم؟

هل يستطيعون، النظر مباشرة في عيني الطفل البريئتين ويجيبون على سؤاله «لماذا؟» بأمانة وصدق، دون نفاق؟

إذا استطاع الساسة من الطرفين، اسرائيل وحماس، النظر في عيني الطفل طويلا والإجابة على سؤاله بما يقنع منطقه البسيط البريء، عندئذ فقط سأصدق ان ذكاء الانسان بدا رحلة اللحاق بذكاء فئران كاليفورنيا؛ وان عام 2009 سيكون أفضل من سابقه، وهي تمنياتي لجميع القراء الاعزاء.