تأملات في البركان الغزّاوي

TT

الجانب الأكثر مأساوية من المجزرة الغزَّاوية ان المجتمع الدولي من القطب الى القطب شاملاً العرب والمسلمين يتعامل مع الموضوع من زاوية انسانية فقط ويتحاشى التعامل السياسي معها. ودليلنا على ذلك ان جميع المواقف العربية والاسلامية والاجنبية، ونعني بذلك مواقف الحكام والحكومات، تتمحور حول الجانب غير السياسي، حيث ليس هنالك أي طرف يبادر إلى الاتصال بالمغتربين من قادة «حماس» ويناقش معهم الأمر. بل حتى الحكم السوري وحليفه الحكم الإيراني لا يتصرفان مع موضوع غزة كقضية سياسية وأن الاثنين شأنهما شأن دولة قطر لا يتجاوزان الخط الأحمر في النظرة الى الموضوع. ونحن عندما نسمي هذه الأطراف الثلاثة بالذات فلأنها الوحيدة التي تستضيف وتمد بالمال أو السلاح أو المؤازرة السياسية قادة الاغتراب «الحماسي» مع ملاحظة ان كل طرف له رؤية تختلف عن الآخر، حيث ان الحكم السوري في حالة تفاوُض غير مباشر ومتقطع مع اسرائيل مرشحة لأن تصبح تفاوضاً مباشراً من دون ان يكون على مستوى القمة، ولأنه كذلك فإن موقفه لا يصل الى مرتبة الموقف السياسي الحاسم من المجزرة الغزْاوية وتغلُب على هذا الموقف دوافع نفسية ولمسات سياسية مدروسة بحيث لا تضيع فرصة التسوية وفق جهود الوسيط التركي.

أما الحكم الايراني فإنه على رغم التعامل اللفظي البالغ الحزم مع اسرائيل كدولة معادية وترداد القول النجادي بأنها ستزول، فإنه بقي في موضوع المجزرة الغزَّاوية في اطار الحسابات الدقيقة مرجحاً الواجب الانساني على الموقف السياسي ـ العسكري الحاسم القادر عليه، وهو ما جعل قادة «حماس» يفترضون ان الحليف الايراني سيضرب ضربته الكبرى اذا هم صمدوا وسيقطفون معه ثمار «نصر إلهي» آخر. أما لماذا كان ترجيح الجبهة الخامنئية ـ النجادية للواجب الانساني على الموقف المأمول فللخشية من الرد الاسرائيلي «المشروع» عندئذ في نظر حلفاء اسرائيل والذي قد يدمر في دقائق كل الانجاز النووي الذي تعمل ايران الخمينية عليه منذ سنوات.. إلاَّ اذا كان الموقف الايراني من التزامه الحيطة هو ارسال اشارة الى المجتمع الدولي مفادها انه اذا كان الغرض من المجزرة، التي هي فِعْل اسرائيلي مألوف طوال نصف قرن منذ مجزرة دير ياسين وحتى المجزرة الغزَّاوية مروراً بمجزرة قانا، تقطيع أوصال «حماس» وأخواتها للشروع في تسوية تؤكد وجود دولتين: دولة اسرائيل، ودولة فلسطينية، فإن الحكم الايراني لا يمانع في ذلك بدليل انه لم يكرر الفِعْل الصدَّامي عندما أرسل الرئيس العراقي أربعين صاروخاً تساقطت فوق أهداف اسرائيلية وكلَّفه ذلك ضرب نظامه فحصاره فغزوه فاحتلاله فشنقه. وهنا نشير الى ان التصريحات الصدَّامية قبل ارسال الصواريخ في اتجاه اسرائيل لا تختلف عن تلك التي درج أهل الحكم الايراني وبالذات كبيرا الحكم مرشد الثورة آية الله علي خامنئي ورئيس الدولة محمود احمدي نجاد، على ترديدها: لكن الذي يميز الكبيريْن الايرانييْن عن الكبير العراقي الأوحد، أن المرشد خامنئي والرئيس نجاد استحضرا على ما يجوز الاعتقاد المصير الذي أصاب الرئيس صدَّام فقررا الإبقاء على الصواريخ في مخابئها كي لا يقال ذات يوم إن هذين الزعيمين لم يأخذا بقول الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه «ما أكثر العِبَر وأقلَّ الاعتبار». وتبقى قطر من المثلث الداعم لـ«حماس» حَمَدِيَّاً وأرضياً وفضائياً. وهذه الدولة تلقى من خالد مشعل ورفاقه «الحماسيين» المغتربين كل التفهم في شأن خصوصية التواصل القَطَري ـ الاسرائيلي والتواجد الاميركي الهائل وهو تفهُّم مسبوق ضمن معادلة ارتضاها صدَّام حسين قبل خالد مشعل وقضت بأن تكون قطر ملاذ الشتات الصدَّامي تتقاسم ذلك مع اليمن.

ونحن عندما نقول ذلك نستغرب كيف ان اخواننا قادة «حماس» اختاروا لعبة تقوم على الرهان وليس على الحسابات الدقيقة. ونقول ذلك على اساس ان مَن يحسب بدقة، من مصلحته الأخذ في الاعتبار أن الانظمة العربية ومعها حكومات المجتمع الدولي لا تستطيع الوقوف معها لأنها اصلاً قطعت خطوط التواصل مع هذه الانظمة والحكومات، نستثني من اجل الدقة ايران وسورية وقطر. وجاء القطْع على مرحلتين. الاولى بعد الخروج على اتفاقات تم التوصل اليها مع ما يشكِّله هذا الخروج من إحراجات لبعض القادة. والثاني بعد التصرف على اساس ان على الانظمة والحكومات الاعتراف بالخطوة غير المنطقية وغير الشرعية التي اقدمت عليها وهي الاستفراد بقطاع غزة والانفصال عن السلطة الوطنية المعترَف بها رسمياً على المستويين العربي والدولي واعلان قيام حكومة يترأسها اسماعيل هنية الذي هو رئيس حكومة «السلطة الوطنية الفلسطينية». وهذه الخطوة معناها ان هنالك فلسطينيْن: «فلسطين حماسية» لا اعتراف عربياً ودولياً بها و«فلسطين السلطة الوطنية» التي تتعامل الانظمة العربية والحكومات الاجنبية معها. وربما كان من أوحى لـ«حماس» بالفكرة رأى ان تتكرر ظاهرة الالمانيتيْن والكوريتيْن والصينيْن. وهذا اولاً وآخراً نوع من التلاعب وتضييع للفرص وهدر للوقت.

ومن المؤكد أنه لو سلكت «حماس» الصراط الواقعي والالتزام بما لم تلتزم به، لكانت المجزرة ربما لن تقع. وحتى اذا نحن افترضْنا ان الجنوح نحو العدوان المتأصل في النفس الاسرائيلية سيصل الى حد ارتكاب المجزرة، فإن التعامل العربي والدولي مع الموضوع لن يكون على الإطلاق انسانياً فقط. ونجيز لأنفسنا ونحن نقول ذلك، الافتراض بأنه في حال حدثت المجزرة وكان هنالك وفاق فلسطيني ووحدة حال خالية من التذاكي بين الطرفين الاقوى حضوراً في الساحة الفلسطينية وكان الرئيس اسماعيل هنية ملازماً مقر رئاسة الحكومة في رام الله الى جانب اخيه رئيس السلطة محمود عباس، فإن هذا التباين في المواقف العربية والدولية الصديقة لن يكون في اي حال على ما هو عليه في ظل وجود فلسطينيْن. كما لن يكون هنالك تباطؤ في عقد قمة عربية تواجه الوضع المستجد. بل ان القادة العرب قد يجدون انفسهم وفي خطوة غير مسبوقة يتلقون دعوة من سلطنة عُمان التي تستضيف دورة انعقاد القمة الخليجية للمشاركة معهم في جلسة استثنائية على هامش الجلسة الخليجية. كما ان السلطان قابوس كان في هذه الحال قد يرى إشراك الرئيس نجاد في هذه القمة ما دام حضوره ليس للإحراج والإرباك كما الحضور السابق في قمة الدوحة، ويعمل على رأب التصدع في العلاقة السعودية ـ السورية والعلاقة المصرية ـ السورية. وكانت هذه القمة المشتركة الفريدة من نوعها ما دامت فلسطين مشاركة فيها بشخص رئيس السلطة «الفتحاوي» ورئيس الحكومة «الحماسي» او «الحمساوي» ستضع القضية الفلسطينية في صدر المشهد الدولي وتتخذ من القرارات ما هو لمصلحة الشعب الفلسطيني الذي انتهت حاله نتيجة الانفصال الى أن الاهواء الرهانية «الحماسية» عصفت به وشجعت اسرائيل على ان ترتكب مجزرة جاعلة من غزة ضاحية اخرى.. نسبة الى الضاحية الجنوبية من بيروت التي اصابها ما اصاب غزة بعد سنتين.

وقد نجد بين اخواننا قادة «حماس» من يقول: لنفترض ان «حركة حماس» اختارت الموقف العنيد على امل ان تجني منه مكاسب للقضية، فهل معنى ذلك ان يكون التعامل انسانياً فقط مع البركان الذي تفجَّر؟ ولماذا لا يكون مثل ذلك الموقف الذي اتخذه العرب ازاء مصر عبد الناصر عندما اختار في مايو 1967 موقفاً يقوم على العناد وعدم التبصر في التداعيات التي تنشأ عن هذا الموقف شبيهاً في بعض منطلقاته بالموقف الذي اتخذته حماس.

ولهذه الواقعة حديث آخر.