إسرائيل تعترف: إستراتيجيتنا هي الجنون

TT

حرك الهجوم الإسرائيلي على قطاع غزة قضايا عديدة ومختلفة، إسرائيلية وعربية ودولية، وهي كلها لا تزال قضايا متحركة، لم تصل بعد إلى لحظة النتيجة، ولم تصل إلى لحظة الانتهاء، ولذلك فإن الحديث فيها هو نوع من الملاحظات ليس أكثر.

أول الملاحظات يتعلق بإسرائيل. ما هو نوع الحرب التي تشنها على غزة؟

تبدأ الحروب بمواجهات، ثم تنتهي بتدمير ومجازر. حرب إسرائيل على غزة جاءت من نوع مختلف. التدمير أولا ثم الحرب. وهذه ليست صدفة، فالمراسلون العسكريون يكتبون في الصحف الإسرائيلية أن لدى إسرائيل استراتيجية جديدة، وهذه الاستراتيجية الجديدة توجه رسالة إلى الجميع تقول، إذا تعرضنا لأي هجوم فإن سياستنا في الرد هي الجنون. نعم هذا ما يقوله الإسرائيليون عن أنفسهم: استراتيجيتنا العسكرية الجديدة هي الجنون ! وترجمة الجنون على الأرض هي التدمير الواسع. التدمير الشامل. فإذا تم قصفنا بصاروخ نرد بغارة جوية تدمر أحياء كاملة، أو سلسلة من المصانع، لعل هذا يردع الآخرين عن مهاجمتنا.

يريد الإسرائيليون أن تكون استراتيجية الجنون، وما يرافقها من تدمير واسع، أداة رادعة تجبر الطرف الآخر على التفكير طويلا قبل أن يتحرك ضد إسرائيل.

فعلت إسرائيل ذلك في الحرب ضد لبنان عام 2006، وأحدثت في بيروت تدميرا لا مبرر عسكريا له. وها هي تكرر التجربة ثانية في غزة عام 2008. تدمير واسع وقتل واسع للمدنيين قبل العسكريين، من أجل أن يرتدع الخصم.

السلاح الرادع الذي يجبر الطرف الآخر على التفكير هو في العادة السلاح النووي. ولكن إسرائيل تريد أن تجعل من استراتيجية الجنون، ومن القصف الجوي الواسع والمدمر، ومن ارتكاب المجازر بسرعة فائقة ومدروسة سلفا، سلاحا رادعا آخر يؤدي نفس الرسالة التي يؤديها السلاح النووي (الذي لا يستعمل في العادة).

ولكن استراتيجية الجنون هذه تعكس، في جانب آخر منها، حالة من الضعف تستحق المراقبة. حالة الضعف هذه تقول إن الجيش الإسرائيلي لم يعد الجيش الذي لا يقهر، فالجيوش النظامية هزمته عام 1973، ومقاتلو المقاومة غير النظامين هزموه في حرب عام 2006، حتى أن عمرو موسى أمين عام جامعة الدول العربية تحدث عن ذلك علنا في افتتاح اجتماع الجامعة العربية الأخير.

وما جرى في غزة حتى الآن يبلور بالتدريج بوادر مماثلة. فقد شنت إسرائيل الحرب لتقضي على الصواريخ الفلسطينية (العبثية ــ التي تشبه لعب الأطفال ـ صواريخ الألمنيوم ـ التي لم تقتل من الإسرائيليين إلا عددا محدودا.. كما يتم وصفها استخفافا بها)، وارتكبت إسرائيل ما يمكن وصفه بمجزرة القرن من أجل القضاء على هذه الصواريخ. ولكن بعد أربعة أيام من التدمير الشامل، ردت الفصائل الفدائية بتجديد قصف الصواريخ. وهكذا تبلور الدرس الأول الذي يقول بأن إرادة القتال ما زالت صامدة، ولم تستطع المجزرة الإسرائيلية أن تقضي عليها. وبعد يوم واحد إضافي تبلور الدرس الثاني، حين أطلق المقاتلون الفلسطينيون صواريخ ذات مدى أبعد. وشكل ذلك «هزيمة» لجنرالات استراتيجية الجنون، وبدلا من القضاء على الصواريخ، ها هم أمام صواريخ أبعد مدى وأشد تأثيرا.

يبقى أمام إسرائيل شن الحرب البرية، أي اقتحام غزة وتدمير بنية الفصائل الفدائية. وهي قد تفعل ذلك مع أنها لا تزال مترددة حتى الآن، ولكنها تخشى مواجهات يتم فيها تدمير دبابات إسرائيلية، وقتل جنود إسرائيليين، وهو ما لا يحتمله الداخل الإسرائيلي. وتكاد تكون النتيجة كما يلي: تدمير إسرائيلي. مجزرة إسرائيلية. عجز إسرائيلي عن الانتصار، وهذا يعني استراتيجيا هزيمة إسرائيلية.

والدرس هنا.. أن حفنة من المقاتلين، وحفنة من الصواريخ، لا تستطيع أن تقضي على الجيش المهاجم، ولكنها لا تتيح له فرصة تحقيق أهدافه. وحين لا يستطيع جيش جرار أن يحقق أهدافه، فهذه هي هزيمته. حصل ذلك في لبنان، وقد يحصل ثانية في غزة.

الجانب الآخر من مجزرة قطاع غزة يتعلق بالفلسطينيين والعرب. لقد اجتمع وزراء الخارجية العرب في القاهرة، ورفضوا الدعوة لقمة عربية طارئة، وقرروا دعوة مجلس الأمن للانعقاد وطلب إصدار قرار بوقف القتال والتدمير الإسرائيلي. وبقيت مبادرة السلام العربية قائمة على حالها، وتم رفض كل دعوة لسحبها من على الطاولة.

تعكس هذه النتائج حالة انقسام عربي فاضح، ولو بقينا نناقش الأمور من خلال هذه العناوين فسنجد أنفسنا أمام حالة انقسام تتسع يوما بعد يوم. أصبح الوضع العربي أمام التحديات الراهنة بحاجة إلى رؤية استراتيجية جديدة، تدرس وتناقش في غرف مغلقة، بين القادة العرب جميعا، وبمبادرة من الدول الفاعلة في هذا المجال. رؤية استراتيجية تطرح سؤالا أساسيا واحدا هو: لقد قررنا في القمة العربية من قبل، وبصدد الصراع مع إسرائيل، أن السلام هو خيار استراتيجي. وعلى أساس هذا القرار ذهب العرب إلى مؤتمر قمة مدريد عام 1991، وبدأوا مفاوضات مع إسرائيل لم تثمر نتيجة نهائية حتى الآن، وجرت خلال المفاوضات حروب قاسية (حرب شارون في الضفة الغربية ـ حرب اولمرت ضد لبنان ـ حرب باراك ضد غزة)، وما يجب أن يدرس الآن هو: هل نستمر في هذه الاستراتيجية، أم نعلن فشلها وانتهاءها؟ وحين يتقرر إعلان فشلها وانتهائها، فإن الأمر يستوجب فورا البدء بتوفير حالة تضامن عربي فعال، والبدء بوضع خطة عسكرية استراتيجية لمواجهة كل الاحتمالات، وهو أمر قد يستغرق سنوات، ولكن يكون واضحا للجميع، ولدى إسرائيل بشكل خاص، إلى أين تتجه الأمور.

هذا السؤال الاستراتيجي، وهذا الجواب الاستراتيجي، هو المطلوب من أي اجتماع عربي. وهذا السؤال هو الذي تعبر عنه أحيانا الدعوة إلى سحب مبادرة السلام العربية من على الطاولة. وهو ما يعني الاعتراف بأن استراتيجية السلام قد فشلت، والاعتراف بأنه لا بد من استراتيجية مواجهة جديدة. وعندها يستقيم أمر الوفاق العربي، ويصبح كل اجتماع عربي خطوة إلى الأمام.

أما ما يتعلق بالفلسطينيين، فثمة أيضا ملاحظات جديرة بالتسجيل. أول الملاحظات أن حركة حماس أخطأت، حين رفضت، وبعد بدء المجزرة الإسرائيلية، دعوة الرئيس محمود عباس للحوار. كما أخطأت حركة حماس، حين بدأت هجوما إعلاميا على مصر، فالطرف الذي يكون في المعركة يحتاج إلى جبهة داخلية أقوى، وإلى جبهة عربية دائمة. وقد أصلحت حركة حماس خطأها هذا، عبر الكلمة التي وجهها إسماعيل هنية (مساء 31/12/2008)، وأعلن فيها الاستعداد للحوار الفلسطيني بدون شروط، مع طلبات لتسهيل الحوار، أساسها الإفراج عن المعتقلين. كما أعلن هنية في كلمته تقديره لموقف مصر، مفرقا بين الاختلاف وبين الإدانة.

وقد بادر حزب الله اللبناني أيضا إلى إدانة موقف مصر بشدة، فوقع في خطأ لا يجوز الوقوع فيه في ظل المعركة وهي قائمة ومتصلة. وحسناً فعل حين بادر بعد يوم أو يومين إلى التخفيف من حدة نقده.

وهناك أخيرا قضية استراتيجية تحتاج إلى نقاش عربي، وهي قضية إيران ومواقفها والعلاقة معها. فثمة كلام كثير يقال عربيا في هذا المجال، يصل أحيانا إلى مستوى الاتهام، ويتدنى أحيانا إلى مستوى الغرائز، وهو موضوع كبير يحتاج إلى وقفة استراتيجية عربية، تحدد ماذا نقبل من ايران، وماذا نرفض من ايران، حتى يقوم الاتفاق حين يقوم، على أرض صلبة. وحتى يقوم الاختلاف حين يقوم على أرضية واضحة. إيران دولة جارة موجودة دائما، كما هي تركيا، فما هي حقوقها كدولة، وما هي حقوقنا عليها كدولة؟ لا يجوز أن يبقى هذا الأمر معلقا هكذا، من دون تحديد سياسي واضح، ولا يجوز أن يبقى مرهونا لصالح المتطرفين من هنا وهناك، ولا بد من وضعه على قاعدة من المصالح الوطنية الكبرى، وبما يخدم مصالح الجميع، لعلنا ننتهي من جدل عقيم بدأ يسيطر على بعض أجوائنا السياسية.