العراق عام 2009: بداية «الانسحاب المسؤول»

TT

بقدر ما مثل عام 2008 انعطافة مهمة في الوضع عبر تراجع معدلات العنف واتساع مساحة المناطق الآمنة وشبه الآمنة لتشمل معظم انحاء العراق والانكسار القوي الذي اصاب القاعدة والميليشيات وانخفاض احتمالات الحرب الاهلية الشيعية-السنية وتعزيز سلطة الدولة، بل وبروزها مجددا كفاعل مجتمعي رئيسي يغري الجميع على التأثير فيه، سيكون عام 2009 حاسما في اختبار القدرة على تحويل هذه المنجزات، غير المؤكدة بعد، الى حقائق راسخة ومستقرة.

سيبدأ 2009 بإدارة امريكية جديدة لم يعرف عن رئيسها تعاطفه مع الانغماس في الشأن العراقي او تأييده للحرب، وقد أرسل اوباما ومستشاروه اشارات حول جديتهم في الشروع منذ الايام الاولى ببحث استراتيجية الخروج والانسحاب العسكري من العراق. بالطبع ان حقيقة كون المناصب المعنية بالسياسة الخارجية والأمن القومي ستشغل من اشخاص وسطيين محسوبين على المدرسة الواقعية تشير الى ان مناقشة القضية العراقية ستجري تحت العنوان الذي تبناه اوباما بازدياد مؤخرا، وأقصد به «الانسحاب المسؤول». وهذا العنوان ينطوي على المرونة الكافية لتعريف حدود المنهج الامريكي المقبل في العراق، فأولا الوجود العسكري الامريكي في العراق سيتحول من وضع التأهب القتالي الذي كان عليه خلال السنوات الاخيرة الى وضع التأهب للانسحاب، وما يعنيه ذلك من ان الانشغال الاساسي للعسكريين الامريكيين سيكون بوضع آليات لفك الاشتباك الميداني disengagement بعد ان كان محكوما بآليات الاشتباك engagement .

سياسيا سينعكس ذلك على السلوك الامريكي الذي سيجمع منهجين قد يبدوان للحظات متناقضين، الأول هو الابتعاد عن التورط في تفاصيل الوضع العراقي الذي كان يصل في مرحلة الرئيس بوش الى حد قيام الرئيس نفسه بالاتصال تلفونيا بالفرقاء السياسيين العراقيين ولعب دور الوسيط عندما يصل النقاش السياسي الداخلي الى استعصاء ما، فأوباما الذي سيواجه مهمة التعامل مع أكبر ازمة اقتصادية منذ الكساد الكبير، والذي يضع «انقاذ» افغانستان من السقوط في يد القاعدة وطالبان مجددا على سلم اولوياته الخارجية، لن يكون مستعدا لقضاء وقت طويل على سماعة الهاتف مع زعماء الاحزاب العراقية وقد يقوم بالمهمة نائبه او وزيرة خارجيته او موظف ادنى في الخارجية الامريكية، وفي نفس الوقت، فان متطلبات الشروع بانسحاب مسؤول ستفرض انغماسا سياسيا مكثفا لبعض الوقت هدفه الضغط على السياسيين العراقيين من اجل انجاز بعض الخطوات التي تساعد على تطمين الوضع وعدم انهياره مع هذا الانسحاب، مع ذلك فان المسؤولية الكبرى ستترك للعراقيين انفسهم، لكي يتكيفوا مع التغيب الامريكي التدريجي. وهناك اسباب قد تجعلنا نتصور ان الادارة الامريكية ورغم انها ستسعى الى رعاية تفاوض مكثف بين الفرقاء لانجاز ما لم يتم انجازه بعد، إلا أنها قد تتقبل في مرحلة ما استبدال منهج التصافق غير المنتج بقبول الصراع على الارض والاعتراف بنتائجه ودعم القوى التي ستفوز في الانتخابات المقبلة بدون مزيد من الانهماك في ارضاء القوى الخاسرة، مما يعني ان تعويل بعض الاطراف العراقية على الدور الامريكي كموازن او كابح لأطراف اخرى لا بد وان يتراجع، لأن ادارة اوباما وعند الاختيار بين رعاية الجدل البيزنطي اللامنتهي داخل الطبقة السياسية العراقية أو القبول بالنتائج التي يمكن ان تفرضها الاطراف الاكثر قوة على الارض باتجاه نوع من الاستقرار الحقيقي، ستميل الى الخيار الثاني.

بالطبع لا يمكن ان يجري التحول في السياسة الامريكية بمعزل عن نتائج الحراك الاقليمي المتوقع وفي الغالب ستشرع الادارة بحوار مع ايران وهناك معلومات ذكرتها «الواشنطن تايمز» حول البحث بتعيين مبعوث خاص لايران في ادارة اوباما، لكن الجدل سيكون حول ما اذا كان هذا الحوار يجب ان ينتظر حتى الانتخابات الرئاسية الايرانية ام لا، وفي الغالب ستكون هناك بعض الاشارات المتبادلة وربما بالونات الاختبار ولن يظهر اوباما نفسه وكأنه مستعجل على هذا الحوار كما سيتجنب التعنت التقليدي لادارة بوش بشأن هذا الملف. الايرانيون بدأوا منذ الآن بارسال اشاراتهم التي تجسدت عراقيا بالسعي الى التهدئة وعدم السماح بتطورات مفاجئة وبالتوقف عن دعم نشاط بعض الجماعات المسلحة المدعومة من ايران، غير ان الذي يعرف السياسة الايرانية يدرك بالتأكيد انها لن تركن لبديل وحيد، كما لن تكتفي بنمط واحد من الاشارات. مع ذلك، يظل علينا ان نرى فيما اذا كانت ايران مستعدة لاستبدال رئيسها المتشدد الحالي من اجل خلق مزاج عالمي جديد تجاهها، ام انها ستميل الى المراهنة على عدم رغبة الادارة الامريكية الجديدة بمغامرات عسكرية مكلفة فتبحث عن صفقة المنتصر.

دول الخليج ارسلت اشارات واضحة على انها لن تقبل بأي صفقة لا يؤخذ رأيها فيها، ومعنى ذلك ان الحوار مع ايران سيكون جزءا من ادارة معقدة للتوازنات الاقليمية، سيصبح عصيا معها فك ازمات المنطقة عن بعضها، حتى لو تظاهر الجميع بذلك. في العموم سيكون حصول توافق اقليمي – امريكي حول العراق لا يخرج فيه اي طرف رابحا او خاسرا خبرا جيدا للعراقيين لأن مثل هذا التوافق سيكون في حده الأدنى قبولا بأن يقرر العراقيون مصيرهم بأنفسهم وهو أحد مفاتيح الاستقرار، ذلك ان مشكلة العراق في السنوات الاخيرة بدت وكأنها مشكلة عدم القبول من الاخرين بادارة العراقيين لمصيرهم.

الفشل في الوصول لمثل هذا التوافق ستكون له انعكاسات خطيرة لأنه سيطلق صراعا مرشحا للتصاعد العسكري وقابلا للتجلي بشكل خاص في المناطق الهشة ومنها العراق، الامر الذي سيحيي العنف الميداني وتصفية الحسابات ونمو الجماعات الوكيلة في الوقت الذي يشي تراجع اسعار النفط باحتمال فشل الدولة مجددا بادارة الاحتياجات الاساسية ومواصلة دمج الفرقاء وبالطبع توفير الدخل الحياتي للقطاع البيروقراطي الضخم المرتبط بها في ظل استمرار ضعف القطاع الخاص، وتواضع الانتاج غير النفطي.