الرأي العام.. القوة الجديدة

TT

نشر فلويد ألبرت ( Floyd.H.Allport ) بحثاً في دورية الرأي العام الأمريكية بعنوان «نحو علم للرأي العام» (Towards a science of public opinion) عرّف فيه الرأي العام بأنه تعبير عدد كبير من الأفراد عن آرائهم حول موقف معين، تأييدا أو معارضة، بحيث يكون عدد المؤيدين أو المعارضين كافيا لممارسة التأثير على موضوع أو سياسة معينة، سواء كان التأثير مباشرا أو غير مباشر، وسواء كان تعبيرهم بمبادرة منهم أو بناءً على استفتاء يقدم لهم.

ولم يكن للرأي العام دور هام ومؤثر على صنع القرار في العالم، قبل وأثناء الحربين العالميتين وفي الولايات المتحدة على وجه الخصوص. فلم تُعرف حينها ردة فعل الشعب الأوربي أو الأمريكي على فضائع حكومة هتلر، كما لم يستطع الرئيس روزفلت أن يحشد الرأي العام الأمريكي لتأييده إلا بعد أن تعرضت الولايات المتحدة نفسها للغزو المباشر، ولم تتشكل قوة الرأي العام الأمريكي أثناء حرب فيتنام، إلا حين أدت الوسائط الإعلامية حينذاك دورا حاسما في نقل الرأي العام المحلي والعالمي حول الحرب.

وقام جورج غالوب (George H.Gallup) بأول استطلاع عالمي للرأي، عام 1974 م، استطاع من خلاله أن ينقل رأي ثلثي سكان العالم، و 90% من شعوب الدول التي سمحت له بإجراء المسح الاستطلاعي، وركز في استطلاعه على جوانب معينة، تهدف إلى معرفة وتحليل رأي الأفراد للبيانات المتصلة بالمتغيرات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية.

وفي تقديمها لكتاب «أمريكا ضد العالم» (America Against The World) تقول مادلين أولبرايت، وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة، لمن يتساءل عن فائدة استطلاعات الرأي العام ؟، بأنه من خلال تجربتها في المشاركة في مسح مكثف برعاية مركز «تايمز ميرور» عن آراء الناس في الاتحاد السوفيتي حول الديمقراطية، قبل الانهيار التاريخي، اكتشفت تطلع الناس للديمقراطية وجهلهم الشنيع بما تفرضه أسس النظام الديمقراطي. والنتيجة كما تقول هي ما تمخضت عنه الصراعات التي شهدتها الجمهوريات السوفيتية السابقة حين تحولت بنجاح للنظام الديمقراطي.

وقد يكون الرأي العام مقصورا على حدود دولة معينة، فتكون قضاياه المطروحة ذات طابع محلي بحت. وقد يكون مرتبطاً بمنطقة جغرافية أكبر، كمنطقة الشرق الأوسط مثلاً فيما يخص قضاياها كفلسطين والعراق وإيران، أو ذا بُعد عالمي تتأثر به معظم شعوب العالم، كالاحتباس الحراري وانتشار السلاح النووي.

وأدت التطورات السياسية التي شهدها العالم بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر وغزو أفغانستان والعراق، إلى اهتمام عدة جهات دولية وإقليمية بالرأي العام في منطقة الشرق الأوسط، بهدف التأثير عليه بما يخدم مصالحها. لذلك طورت إسرائيل قنواتها العربية وأنشأت مواقع على شبكة الإنترنت، ترصد توجهات الرأي العام في المنطقة. كما قامت الإدارة الأمريكية برصد ميزانيات ضخمة في بحوث الإعلام واستطلاعات الرأي العام في المنطقة، وأطلقت إذاعة «سوى» وقناة «الحرة». وقامت كل من فرنسا وألمانيا وبريطانيا وروسيا وإيران، بإطلاق فضائيات خاصة بالمنطقة العربية، هذا خلاف المواقع الإلكترونية الممولة أو المدعومة من تلك الجهات. وتتمتع تلك الوسائل الإعلامية الضخمة بمصادر تمويل قوية، وبمهنية عالية، وخطاب دعائي جذاب، وتستخدم ذلك كله في ترويج أفكار وسياسات قد تتعارض أحيانا مع مصالح شعوب المنطقة وسياساتها. خصوصا أنها تطلق بين فترة وأخرى استطلاعات للرأي في مسائل سياسية ودينية واجتماعية، موهمة الرأي العام المحلي والعالمي بأن تلك القضايا ونتائج استطلاعاتها تعبر فعلاً عن الرأي العام في تلك الدولة أو ذلك الإقليم، ما يمهد لمطالب وضغوط خارجية بحجة أن تلك هي المطالب الشعبية.

إن تعقد الحياة السياسية والاجتماعية، ودخول الأطراف الخارجية من خلال ثورة الاتصالات، وعولمة الشأن الداخلي في منطقتنا، تتطلب منا نظرة جدية نحو إقامة مراكز متخصصة لرصد وقياس الرأي العام المحلي، وإدارته والتفاعل معه بشفافية، تضمن الحصانة الفكرية لمواطنينا، للحافظ على الاستقرار السياسي والثقافي والاجتماعي لبلداننا، لكي لا يصبح الرأي العام لدينا رهينة في أيدي المتنافسين على المنطقة والمقامرين بمستقبلها. بل ولنتجاوز ذلك إلى التأثير ما أمكن على الرأي العام العالمي تجاه قضايانا، مستغلين تلك القوة الجديدة للرأي العام.

[email protected]