البشارة

TT

اتصل بي تلفونياً ليقول لي: إن لدي لك خبرين احدهما طيب والآخر سيئ، فأيهما تريد أن تسمعه أولاً؟!، أجبته: احك لي عن الخبر الطيب أما الخبر السيئ فاحتفظ به لنفسك، قال: لا، إما أن أحكي لك عنهما معاً أو لن أحكي لك عن أي منهما، وبعدها أغلق الخط.

وأخذت أضرب أخماسا بأسداس و (أتحرقص)، وبدأ حب الفضول والقلق يستبدان بي، فلم أستطع المقاومة، واتصلت به قائلاً: إذا كان ولا بد فاحك لي أولاً عن الخبر الطيب ثم الخبر السيئ، وفعلاً بدأ بالأول فسعدت وضحكت، ولكنه ما كاد أن يفجر أذني بالخبر السيئ حتى توقفت الضحكات وأخذت أتقافز وألطم ولو انه كان هناك تراب حولي لحثوته على رأسي، وظللت طوال ذلك اليوم طريحاً فوق كنبة عريضة، عاصباً رأسي وأحن وأون كالثكالى.

وعرفت، بل تيقنت أنني إنسان خفيف كالريشة يلعب بي الهواء كيفما شاء، ولولا قليل من الخجل لقلت إنني بالفعل (كالقرقعانة)، سريع الفرح إلى درجة الاشتعال، وسريع الحزن إلى درجة الانطفاء ـ وبمعنى أكثر دقة ـ (كلمة تجيبني وكلمة توديني).

ولم أتعلم الدرس من ذلك الرجل الحكيم الذي ذهبت إليه سريعاً في أحد الأيام لكي (أبشره) بخبر سعيد كان يتمناه منذ زمن، ولا أخفي عليكم أن حماسي بأن أكون أول من ينقل له ذلك الخبر كان ناجماً عن طمعي بأن يعطيني (البشارة) ـ خصوصاً وهو رجل كريم ومعروف عنه أنه لا يتأخر في مثل هذه الحالات السعيدة.

غير أنني تفاجأت بأنه (ركنني) جانباً طالباً مني ألا أقول له ذلك الخبر المفرح الآن، والذي لا يعرف كنهه حتى هذه الساعة، وهو سوف يسمعه مني بعد أن ينهي جميع التزاماته، وفعلاً مكثت عنده في مكتبه عدة ساعات، وكنت أشاهد البعض يدخل عليه في مكتبه والبعض يخرجون، وبين الحين والآخر كان صوته الغاضب أو المحتج يصل إلى مسامعي، فأعرف أن هناك مشاكل يريد حلها أو احتواءها.

كل هذا كان يجري أمامي والخبر السعيد الذي أريد أن أقوله يغلي في داخلي (كالمرجل)، مستغرباً من ذلك الرجل البارد الذي لديه هذه القدرة العجيبة على تأجيله، وقبل نهاية الدوام استدعاني، وطلب مني بكل هدوء أن احكي له الخبر السعيد الذي أتيت من أجله ليسمعه، قلت له الخبر فتهللت أساريره.

ثم سألني: هل تدري لماذا تركتك تجلس طوال تلك الساعات ولم أسمح لك بأن تحكي لي ما تحمله؟!

قلت له: لا.

قال: أردت قبل ذلك أن أواجه وأذلل كل المنغصات التي أمامي حتى أكون مهيأ لسماع ما لديك، فقد تبينت منذ زمن طويل أني إذا بدأت بالطيب المريح من الأمور وأرجأت المتعبة، فاني اقضي بقية اليوم وأنا سيئ الخلق ـ لأن المتعبات تظل دائماً معلقة فوق رأسي ـ، ولكن إذا حللت الأمور المعقدة والشائكة قبل غيرها ثم انتقلت إلى ما هو أسهل، فاني اشعر بطيب العيش، وشبيه ذلك أن تأكل حلواء بعد دواء مر ـ فتنسى ذلك الطعم السيئ ـ.

أيدته على كلامه وأنا أفكر بإعطائي (البشارة) التي لولاها لما تكبدت المجيء، ويبدو انه لاحظ ذلك عليّ من زوغان عيني ورجفة قدمي، فما كان منه إلاّ أن فتح أحد الأدراج وناولني علبة أنيقة، قائلاً: هذه هي بشارتك، شكرته بحرارة وخطفتها من يده وخرجت، ومن شدة (شفاحتي) لم أنتظر وفتحتها وأنا امشي، فإذا هي قلم حبر، فأسقط في يدي ولويت بوزي، لأنني لا أستعمل قلم الحبر إطلاقاً، فكل كتابتي هي بقلم الرصاص (المرسمة).

[email protected]