جيل الالتزام

TT

فقدت مصر كامل زهيري في هدوء كما عاشت معه في هدوء. ولم أشارك يومها في رثائه لأن الكاتب يسأم من هذا الدور. فليكتب الآخرون عمن يحب ويحترم. ولم أشعر بتأنيب الضمير. قليلون جداً يعرفون عن الود الذي كان يجمع بين كامل زهيري وبيني. لكنني عندما تسلمت ادارة تحرير «الانباء» الكويتية في مرحلة الغضب على كامل في مصر، كان أول ما فعلته أن طلبت منه الكتابة معنا. وكنا كلما التقينا في مكان بعد ذلك يصرخ ساخراً ضاحكاً من بعيد: أهو سعادة رئيس التحرير. وعندما كرمه نادي الصحافة في دبي قبل نحو 4 سنوات، شعرت بأن الصحافة العربية الراقية والمثقفة والموهوبة والمتواضعة والصادقة، قد كرمت.

غير ان غياب كامل زهيري، بكل ذلك الهدوء الموائم، لفتني الى ظاهرة عظيمة في مصر، ربما أذن موت كامل زهيري بأواخرها. كل كاتب في مصر كان معه قلم وله قضية. سواء كان كاتباً في حجم محفوظ والحكيم وطه حسين وعمر خالد ويوسف ادريس وأحمد بهاء الدين، أو كان كاتباً عادياً وربما مغموراً. استعدت مع غياب كامل اسماء الذين فقدناهم في مصر وتنبهت، بغير قصد، الى ان ثمة ظاهرة غريبة في الامر. كل كاتب كان سياسياً خفياً. كل كاتب استعان بالاستعارة والرمز والكناية لكي يقول موقفه في قضايا بلاده وقضايا الناس ومسائل حياتهم. وبرغم الاسلوب النسائمي السلس الذي عالجوا به قضاياهم، فإن أحداً منهم لم يعالج قضية بخفة أو بسطحية أو على عجل. ومنهم من خلط كل كلمة كتبها وكل يوم في حياته بتاريخ مصر وحياة المصريين على غرار ما فعل الحكيم ومحفوظ وادريس.

لقد كان الصحافيون في بلدان اخرى مهنيين، وأحياناً بامتياز، لكنها كانت شبه قاعدة عامة في مصر ان يكون الصحافي ملتزماً، معارضاً أو موالياً. وظلت الرموز الوطنية حاضرة في اعمال الكتّاب والصحافيين. وتخلى رجال مثل احمد بهاء الدين عن منصب مثل رئاسة تحرير «الاهرام» في سبيل قناعتهم الذاتية واحتراماً لتاريخهم الشخصي والمهني.

كان كامل زهيري أحد هؤلاء، وأنه فضل الحياة في الظل على الجلوس في المقاعد الامامية. وعمل طويلاً في المهنة من دون أن يغادر نفسه لحظة الى أي مكان. ولسبب لا أعرفه ولا أعرف له تفسيراً لم يبلغ كامل، برغم كفاءته، ما بلغه رفاقه وأبناء جيله، الا طبعاً في مبلغ الاحترام.