حل الدولتين أو (حل) الدولتين

TT

هل يستطيع المرء في هذا الوقت العصيب، ورغم وحشية الصور القادمة من غزة التي جعلت الآلية العسكرية الإسرائيلية من سمائها فضاء للألعاب النارية الملتهبة في بدايات هذا العام الجديد، هل يستطيع أن يفصل نفسه عن مشاعر الغضب والأسى ليتفكر قليلا ويوجه رسالة إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت ورئيس حركة «حماس» إسماعيل هنية في الوقت ذاته؟ هذه هي الرسالة. وأبدأ بهنية.

السيد إسماعيل هنية، لا أخفيك أن أي إنسان عاقل سيقف ضد العدوان الشرس الذي تقوم به إسرائيل على غزة وعلى الشعب الفلسطيني هناك، ولكن اسمح لي يا مولانا أن أواجهك بالحقائق. لنفرض أنكم انتصرتم على إسرائيل، كما انتصر عليها «حزب الله» عام 2006، فما هي يا ترى توقعاتكم لمستقبل الدولة الفلسطينية، وللدور الذي ستلعبه حركة «حماس» داخل هذه الدولة المفترضة؟ سقف حماس السياسي سيكون هو حال «حزب الله» في لبنان اليوم، حزب سياسي مسلح يسعى جاهدا كي يكون ضمن المعادلة السياسية اللبنانية الداخلية، بصيغة تحفظ له سلاحه، وهو سلاح بالطبع غير مجد تجاه إسرائيل في وجود قوة متعددة الجنسيات تفصل طرفي النزاع، وفي الوقت نفسه هو مصدر قلق للمنافسين اللبنانيين في العملية السياسية.. فهو لم ينل لا بلح الشام ولا عنب اليمن.

أما على مستوى ما حققته منظمتكم الأم، حركة الإخوان المسلمين في عالمنا العربي عموما، فسقف الإخوان المسلمين في العملية السياسية العربية معروف في سياقاته المختلفة. في ظل نظام قوي من الناحية الأمنية، مصير الإخوان في أي مكان سيكون أشبه بمصيرهم في سورية بعد ضربة حماه ونهاية الحركة كتنظيم مقلق للنظام وقتها، حيث أصبح الإخوان مجرد فلول من معارضي الخارج، كما حالة علي صدر الدين البيانوني المراقب العام لجماعة الإخوان المسلمين السورية، والمقيم في بريطانيا. أما في نظام أقل شدة من حيث القبضة الأمنية وفيه شيء من الانفتاح مثل مصر، فسقف الإخوان السياسي هو ثمانون مقعدا في مجلس الشعب، أي ثمانية عشر في المائة من نسبة المقاعد، وما زالت الحركة محظورة ومطاردة. أما في الكويت والأردن، فسقف جماعة الإخوان المسلمين هناك أن تشاغب على الحكومة وتحاول إزعاجها في البرلمانين الكويتي والأردني. لم يملك الإخوان المسلمون لا الشارع الأردني ولا الشارع الكويتي، ولم يقوض الإخوان المسلمون السلطة في أي من هذين البلدين. أما إخوان السودان، فسيطروا على الدولة ثم انقسموا على أنفسهم وخربوها وقعدوا على تلها، كما نقول في الصعيد.

إذن ترى ما الذي يمكنكم كـ«حماس» تحقيقه في ظل الوجود الإسرائيلي إن عاد الاحتلال البري العسكري مجددا إلى غزة؟ أو ما الذي يمكن لحركة «حماس» تحقيقه تحت سلطة الرئيس الفلسطيني محمود عباس وحركة «فتح» إن قدر لكما التصالح؟ إذا أخذنا الاحتمال الأول، وهو عودة إسرائيل كقوة احتلال في غزة تحكم قبضتها وأجهزنها الأمنية على المدينة، لن يبق بالتأكيد من حركة «حماس» سوى رموز لها في الخارج. أما بالنظر إلى الاحتمال الثاني، وهو المصالحة بين «فتح» و«حماس»، فإن الحد الأقصى لمكاسب حركة «حماس» السياسية، في المستوى المنظور، هو أن تكون كما ذكرت في بداية هذا المقال، مثل «حزب الله» في لبنان، مع الانتباه إلى أن قدرات «حزب الله» التي أهلته لمكاسب حصل عليها في الداخل اللبناني، هي بلا شك قدرات تفوق قدرات حركتكم بكثير من حيث عدد الكوادر وتدريبها وانضباطها وكذلك من حيث كمية وجودة التسليح.

في ظل هذه المعطيات المرتبطة بخصوصية الوضع الفلسطيني ووجود إسرائيل كقوة جاثمة على صدره، وبالنظر إلى تجارب الإخوان المسلمين غير الناجحة في الدول العربية، أقول لك يا مولانا، ليس أمامك وضع سياسي أفضل مما أنتم فيه اليوم، فلتقبلوا بالالتزام بوقف إطلاق النار المستمر، وأنتم تتمتعون بهذا التعاطف الشعبي على المستويين العربي والإسلامي، وهو تعاطف غير مضمون الدوام، فلو بادر «حزب الله» الذي حظي بالتعاطفين العربي والإسلامي العارمين صيف 2006، بحرب أخرى بعدها، لما وجد من يؤيده سوى رجاله في الضاحية وبعض أبطال الفضائيات، أو من أسميهم برواد الفضاء الجدد. إذن لا بد لك ان تتسربل بالغطاء السياسي الذي تمنحه لك الدول العربية اليوم، ولا بد لك أن تؤيد خطوتهم في نيويورك ونتائجها، فهذا بتقديري أقصى ما يمكن لحركة «حماس» الحصول عليه اليوم.

أما الشق الثاني من الرسالة فهو موجه إلى السيد إيهود أولمرت.

السيد أولمرت، مثلك مثل إسماعيل هنية، لا بد وأنك تعرف سقف ما يمكن تحقيقه في غزة اليوم. سقف ما يمكن أن تقوم به إسرائيل عسكريا اليوم ضد غزة، هو ما قامت به من تحريك دباباتها وجنودها وغزو المدينة بالقوات البرية، وفي هذا لن تكونوا أقوى من الأمريكان في غزوهم الفلوجة وما كبدته لهم هذه المدينة المهملة المنسية من خسائر بشرية ومادية، ولن تكونوا أقدر من قوات حلف الأطلسي البريطانية والأميركية في قندهار التي دفعت بجنرالاتهم إلى الاعتراف بما يشبه الهزيمة، ولن تكونوا أنجح من الفرنسيين قبل زمن طويل مضى، الذين دوخهم حتى رحلوا عن بلادهم، ثوار الجزائر. الدخول الإسرائيلي البري إلى غزة معروفة نتائجه، ستدخلون حرب عصابات مع رجال حركة «حماس» في شوارع غزة وأزقتها الضيقة، ستكون حربا قاسية تكلفكم الكثير وتجلب عليكم سخط العالم كله. وقد يكون رجال جيشكم قد تعلموا بعض المهارات في قتال الشوارع من حربهم الأخيرة في جنوب لبنان، إلا أنه يجب أن تدركوا لا يمكن لكم أو لأي قوة أخرى مهما بلغت شدتها أن تستأصل حركة مقاومة قد حيكت من ضمن نسيج مجتمعها المحلي مثل حركة «حماس» في غزة أو «حزب الله» في جنوب لبنان أو الجيش الثوري الآيرلندي في آيرلندة أو غيرها من الحركات في تاريخ الصراع البشري. بالطبع لديكم القوة العسكرية التي تستطيع أن تمحو غزة بأكملها من الخريطة، وكذلك جنوب لبنان، ولكن أي ثمن ستدفعونه إن أقدمتم على فعلة مجنونة كهذه؟

سقف إنجازاتكم في غزة سيكون أشبه بما أنجزتموه في حربكم الأخيرة على لبنان، الدخول في معركة خاسرة، وتأليب الرأي العالمي ضدكم، ودفع الشارع العربي والإسلامي إلى مزيد من التشدد والتطرف. المشهد الدامي الذي خلقتموه في غزة خطير جدا، لا ينم إلا عن تخبط استراتيجي قد يزعزع الأمن الإقليمي برمته، هذا إضافة إلى زعزعة الاستقرار في دول الجوار التي تقيم معكم سلاما مثل مصر والأردن، وإحراج قيادات هذه الدول وإرباكها. فالتصعيد العسكري الإسرائيلي على غزة، كما ذكرت في مقال سابق، لا يحاصر غزة فقط، وإنما يحاصر أيضا كل العرب المعتدلين الذين ما زال لديهم أمل في أن يعم السلام على المنطقة وتطوى صفحة الحروب.

السيد هنية.. السيد أولمرت، سقف الأزمة الحالية في غزة معروف وواضح في سياقاته المختلفة، وفكرة النصر ستكون بعيدة المنال عن أي منكما، لأن أيا منكما لن يحقق هدفه الاستراتيجي لا في المدى القريب ولا في المدى المنظور.

إذن يبقى خيار وحيد لكما، وهو الإصغاء بعناية لمقترحات الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي القادم بجولة إلى المنطقة تهدف إلى العمل الجاد على وقف العدوان الشرس على غزة، والالتزام بوقف العنف والعودة إلى طاولة المفاوضات المرتكزة على حل الدولتين الذي طرحته المبادرة العربية، دولة فلسطين ودولة إسرائيل. على حركة «حماس» أن تفهم جيدا هذه المرة أن لا مناص من العودة إلى الحوار مع السلطة الفلسطينية في رام الله وتوحيد الصف الفلسطيني، فلا أحد في المجتمع الدولي سيسعى إلى إقرار حل ثلاث دول، وعلى إسرائيل أن تفهم جيدا أيضا هذه المرة أنه لا بد من قبولها دولة فلسطينية إلى جوارها.. وإن لم تقبلا يا سيد هنية وسيد أولمرت بحل الدولتين، فأمامكما خيار (حل) الدولتين بطريقة أخرى، أي (الحل) من الذوبان والتلاشي. كلاكما، إسرائيل وحركة «حماس»، ترتكبان حماقة استراتيجية، سوف تدفع المنطقة بأكملها ثمنها الباهظ جدا، رغم أن العواقب السياسية الوخيمة التي ستعود عليكما من هذه الأزمة معروفة تماما ولا تحتاج إلى عبقرية لتخمينها.

هذه هي رسالتي والسلام.