جيش مصر كما عُرف.. من يقلب السحر على الساحر؟

TT

في العام 1976، زار وفد من كلية الأركان العراقية، مسرح حرب سيناء، ولم نتفهم في حينه معنى شعار كتبه أحد مقاتلي الجيش المصري، على نقطة حصينة من خط بارليف تقول:(مصر أولاً). لكن بمرور السنين ظهر أن ذلك الشعار ينطلق من فهم استراتيجي، حتى أن قُصد غيره، لأنه يعكس أهمية استقرار مصر، ليس للعالم العربي فحسب بل للعالم أجمع. فمصر بكل ثقلها السكاني والثقافي..، تمثل هدفاً لاستراتيجيات التخريب لأصحاب الغرض السيئ، الهادفة الى توفير ظروف فوضى عارمة تتيح فرصاً لتحقيق آمال السيطرة على المنطقة، خصوصا منطقة الخليج بدءا من العراق.

وفي الوقت الذي يقف حسن نصر الله مدافعاً (بالكلام) عن فلسطين، يحرض جيش مصر على قيادتها، ما يدل على جهالة في معرفة هوية الجيش المصري وموقف جنرالاته، وكأن لديهم الوقت ليستمعوا الى رسائل التحريض الإيرانية، أو أن يتعلموا دروس (الغدر) من طرف جُبل عليه من بلاد الشرق، بعد دهر من الثقافة الوطنية والفكر العسكري العميق.

لم يكن استهداف مصر قد ولد على هامش مأساة غزة، التي غرر وغدر بها أهل شهاب وسجيل، بل هو هدف يحلم به مصدرو الإرهاب من مصممي سياسة فيلق الإرهاب (القدس) الإيراني. لكنها عصية عليهم وستبقى كذلك، وعلى العرب فهم اللعب الخطيرة المتعاقبة من وسط آسيا الى حيث يدور الصراع والتحريض.

قبل نحو خمس سنين، قلت لشخصية عراقية معروفة اليوم، (يا أخي مع احترامي لكل الشرفاء من المقاومين، ومع معارضتي للسياسات الأميركية الخاطئة، انكم تقدمون خدمة جليلة للمشروع الإيراني من دون قصد). فهل يعيد التاريخ نفسه على طرف آخر ليشمل الشرفاء في حركات عربية، تصب تصرفاتها، ولو من دون قصد أيضاً، في مصلحة المشروع التدميري الإيراني، الساعي الى إعادة ما يسمى بـ (أمجاد) غبرت؟.

هل يعقل أن تُجر مصر بكل ثقلها، ودهاء رئيسها وقيادتها، الى حروب، اختار العرب بالتتابع الجنوح عنها وتبني السلام خياراً استراتيجياً؟ وهل يعقل أن يكون ذلك تمشياً مع إشكالات وتعنت وأحلام وأخطاء طرف لا يتحمل مسؤولية أمة وشعب ومنطقة؟

لقد أحدثت إيران بتدخلاتها غير المشروعة دماراً هائلاً في العراق، بالطبع بعد أن امتطت مجموعات تحمل هوية عربية سنية متشددة، الى جانب فرق موت شيعية، وتشير كل المعطيات والحقائق، الى أن حزب الله كان ضالعاً في المشروع الإيراني، لجهة التدريب داخل العراق وفي إيران ولبنان، ونقل فلسفة العبوات.. الخ.

نخطئ الحساب إذا أسلمنا أن ذلك كله لغرض كسب الوقت لتصنيع سلاح نووي فقط، لأن النووي وسيلة، أما الغاية ففرض الهيمنة على المنطقة، الى حد الاحتلال، حتى أن اعتبر ذلك حلماً من أحلام الجهالة يستحيل تحققه لو تحولت الأرض الى وضع آخر.

وليت الأمر وقف عند هذا الحد، بل تعداه في حديث لنجاد، يقول فيه لولا المقاومة في فلسطين ولبنان لما بقي أثر لمكة والمدينة والقاهرة وعمان..! فهل كانت عملية اختطاف جنديين مهراً لكل ذلك التدمير الذي طال لبنان في حرب 2006، بقيت إيران متفرجة طوالها؟ وهل كانت تلك الحرب خطاً دفاعياً عن مقدسات العرب والمسلمين؟ وهل ان حزب الله هو من قهر خط بارليف واجتاح الجولان بسرعة خاطفة عام 1973؟ أم كانت نزوة في حسابات خاطئة؟ الحقيقة لا هذه ولا تلك، بل كانت وفق مخطط تصعيد ، بحلقات متسلسلة، يراد به إثارة اضطراب وتصادم، خدمة لمشروع إيراني، يفترض بالعرب والعالم أن يكونوا فهموا صفحاته تماماً.

قالوا في زمن خميني، وربما صدّق بعض البسطاء، أن كربلاء طريق القدس، والمقصود هنا المدينة وليس الواقعة، وقد رحل صدام، ولم يفعلوا شيئاً. ويقيناً أن ضبطهم (اللامتناهي لأعصابهم)، وعدم تحريك صواريخهم، والاكتفاء بالتحريض، قرارات لم تتخذ على خلفية الخوف من رد فعل غير مؤهلين لتحمله فحسب، بل لأنهم أرادوا توجيه رسالة الى أميركا وإسرائيل مفادها: ألم نقل لكم أننا لا نبيت الشر لكم، وصواريخنا وقنابلنا الذرية المنتظرة، ليست مصممة ضدكم ولم يكتب عليها حرف واحد عنكم؟ فاتركونا وشأننا مع جيراننا. وبالطبع فإن العرب ليسوا في حاجة لدور تصعيدي إيراني من أي شكل.

لكن هل يعقل أن يبقى الساحر يمارس دوره ممسكاً بالمبادأة هنا وهناك، فيخيل إليه، أنه لاعب ماهر في لعب الأمم، يحرك الأحداث كأنها مسرحية أو لعبة حرب تساق فيها العوامل كما يريد مصممها؟ أما آن الأوان لأن يُقلب السحر على الساحر. ولعل ذلك يتحقق بحزمة موحدة، أو تتجمع أعوادها تباعاً، تبدأ بوقف فوري للعمليات القتالية في غزة، تلتزم به حماس بحوار فلسطيني جدي، بإشراف عربي ملزم وعادل، لوضع العملية الفلسطينية في مسارها الصحيح، وان تفهم إسرائيل بأن التجاوب مع المطالب المنطقية الفلسطينية، والانسحاب من الجولان يحققان لها سلاماً واندماجاً في المنطقة.

ألا يكفي درس غزة المرير، لمعرفة حقيقة السياسات الإيرانية، وألا يتطلب ذلك الدرس وحده، تخلي حماس عن علاقاتها مع إيران، لأنها لم تجلب في المحصلة للشعب الفلسطيني غير الدمار؟ أليس مطلوباً رفع صور خميني عن جدران المكاتب، رداً على الغدر. فقراءة الموقف تدل أن العرب منزعجون، من علاقات حماس مع إيران، وما ظهر من تعاطف شعبي كان أقل كثيراً مما هو مفترض لذات السبب، وبسبب الهجمة الإعلامية الإيرانية على الدول العربية. فالعرب اليوم يرون التهديد الرئيسي شاخصاً في التوجهات الإيرانية، ومحاولاتها المريبة في إثارة الصراع والاضطراب، وهي كذلك، الى درجة حولت الاهتمام بالقضية الفلسطينية الى أسبقية دونها. فالتهديد الإسرائيلي الذي كان قائماً قبل عقود قد تحجم، أما المشروع الإيراني فلا يزال في بداياته، وأهل الخليج والعراق ولبنان يدركون حجم المخاطر أكثر من غيرهم، إلى أن تمادى المتمادون على مصر عبثاً.

مصر باقية لأنها جزء من الحركة الطبيعية في العالم، وحرب غزة ستتوقف بشكل أو بآخر، وعليهم مراجعة سياستهم.

[email protected]