الجيوبوليتيك.. والحرب على غزّة

TT

كما عكست حربّ تمّوز (يوليو) 2006 على لبنان وجه الصراع الدوليّ والإقليمي على الأرض اللبنانيّة، تعكس اليوم الحرب على غزّة أوجه الصراع نفسها. فاللاعب الدولي الأوحد حتى الآن، يبقى هو هو: الولايات المتحدة. كذلك بالنسبة الى اللاعبين الاقليميّين: ايران، مصر، سورية، المملكة العربيّة السعوديّة وإسرائيل، الى جانب اللاعبين من الترتيب الثاني كحماس وحزب الله.

عبر لبنان وغزّة، تحاول ايران الدخول إلى قلب المعادلة الاقليميّة نظرا الى مركزيّة القضيّة الفلسطينيّة. كذلك تتصرّف سورية.

ما يهمّ مصر من غزّة، هو من يحكم غزّة، وما هي ايديولوجيّته، وإلى أيّ مدى يؤثّر في الداخل المصري سياسيّا. فغزّة تاريخيّا هي في حضن مصر، وهي اليوم تخرج منه وتتمرّد عليه. فهل يتكرّر اليوم بين الرئيس مبارك ونظام ايران الصراع الذي كان بين الرئيس عبد الناصر وشاه ايران؟ ممكن، فقط لان الجيوبوليتيك يتقدّم عادة الغشاء الايديولوجيّ.

إذا خسرت سورية ورقتي لبنان وغزّة، سوف تهمَّش في أيّ حلّ مستقبليّ. أما السعودية، وهي قلب العالم الاسلاميّ، وهي التي ضحّت من أجل القضيّة الفلسطينيّة، وهي التي اقترحت مبادرة حلّ اقليميّة العام 2002، وهي التي رعت الحلّ في مكّة، وهي التي تحاول استرداد العراق إلى الحضن العربي، وهي التي تقلق من النووي الإيراني. تريد المملكة اليوم، رعاية مشاكل العرب. من هنا الاهتمام بغزّة. أما اسرائيل، فتعتبر غزّة الباب الخلفيّ لها. ولا يهمّها من هو في غزّة، لا بل ماذا يملك، وإلى من ينتمي، ومع من يتحالف – المقصود هنا إيران. بل تقلق إسرائيل من إمكانات حماس، فقط بسبب واقعها الجغرافيّ.

وقد حقّقت إسرائيل في بداية الحرب مفاجأة تكتيّة على حماس ـ بالأحرى مجزرة. فبعد خداع عسكريّ، لعمليّة بدأ تحضيرها منذ اكثر من ستّة اشهر، كانت الحرب الجويّة التي ألقت خلالها 100 طائرة اكثر من 100 طن من المتفجّرات في 4 دقائق فقط على اربعين هدفاً.

فما هو هدف العمليّة الجويّة؟

أولاً، ضرب مراكز ثقل حركة حماس وهي: القيادة والسيطرة، وسائل الاتصال والشبكات، استهداف القيادات السياسيّة كما العسكريّة، ضرب اللوجستيّة، وبذلك تسعى اسرائيل لإحداث شلل استراتيجيّ على صعيد القيادة في حماس.

ولئن كانت اسرائيل تعرف انه لا يمكن استئصال حركة حماس بالكامل، لذلك هي تريد ضرب حماس عسكريّا حتى الحدّ الأقصى، بحيث تواجه واقعا جديدا هي الأضعف فيه، فتكون في الحدّ الأقصى حركة سياسيّة دون انياب عسكريّة. كما أن الضربة الإسرائيلية ترمي إلى تثبيت انقسام فلسطيني نهائي بين حماس والسلطة، خاصة انهما منفصلتان سياسيّا وايديولوجيّا وجغرافيّا، فتصير الاثنتان حركتين سياسيّتين دون وزن يُذكر. ولا شك في أن اسرائيل تخوض الحرب على غزّة وفي عقلها الباطن دروس الحرب على لبنان 2006 وتخوف من فشل متكرر. كما انها لن تكتفي بالحرب الجويّة لانه لا يمكن الحسم من الجوّ مع عدوّ مثل حماس، كما ان الاهداف الجويّة المهمّة قد استنزفت. لذا هي مُلزمة بشن حرب بريّة، فقط كي تستطيع قياس نجاحها العسكريّ، وبالتاليّ تحويله إلى نصر سياسيّ يُستغلّ في الساحة الداخليّة الاسرائيليّة. يضاف الى ذلك أن اسرائيل مٌقيّدة بعامل الوقت الذي يعمل عادة في حروب كهذه لمصلحة المقاومة. واذا وقعت الحرب البرية فإنها قد تأخذ الشكل الآتي:

* سوف يتمّ عزل القطاع عن الخارج، وهذا تقريبا محقّق حتى الآن.

* سوف يستمرّ القصف الجويّ لأهداف جديدة، وهذا امر يتطلّب استعلاما تكتيّا مستمرّا دقيقا وفوريّا.

* ستتجنّب اسرائيل الدخول إلى المدن، كما فعلت في الحرب على لبنان العام 1982، وهذا ما يُظهره العامل الميدانيّ من حشد القوى المدرّعة في الشمال والوسط وجنوب القطاع.

* قد يتمّ تقطيع القطاع إلى قطاعات غير مترابطة، ومن ثمّ العمل على كلّ قطاع على حدة.

* اما التركيز الكبير فسوف يكون على مدينة غزّة، حيث من المفترض وجود قيادات حماس الرئيسيّة، فهل يتكرّر ما حصل في بيروت مع الرئيس ياسر عرفات؟

وفي قراءة تحليلية استباقية يمكن القول إن نجاح العمليّة البريّة أو فشلها يتعلّق بالأمور الآتية: مدى سلامة قادة حماس بعد الغارات الجويّة، مدى سرعة تقدّم الجيش الاسرائيليّ داخل غزّة. والأمر الأخير مرهون بمدى سلامة المنظومة الدفاعيّة التي حضّرتها حماس بعد القصف الجويّ، ومستوى المخزون اللوجستيّ من الصواريخ التي إذا ما استمرّت بالانطلاق، فهي سوف تكون على غرار ما حصل في لبنان العام 2006، مع التذكير بانه لا يمكن مقارنة وضع حزب الله بوضع حماس، كما لا يمكن تقليد التجربة كما هي، وجُلّ ما يمكن اخذه هو الدروس العملانيّة والتكتيّة.

* عميد متقاعد في الجيش اللبناني وباحث أكاديمي