التونسيون.. وأحداث غزة

TT

أينما ذهبت في تونس، فإنه لا حديث إلا عن معاناة أهل قطاع غزة: لوعة وأسى وغضب شديد يتعاظم كلما ارتفعت حصيلة القتلى والجرحى.

المعنيون بنشرات الأخبار وغيرهم قابعون أمام الفضائيات يشاهدون باحتقان وباستغراب صور الأطفال التي تجعل كل أب وأم في هذا العالم يطأطئان رأسيهما خجلا.

وحتى في ليلة رأس السنة الميلادية التي يحتفل بها التونسيون بشكل خاص، حيث لا يكاد يخلو بيت من عشاء طيب ومرطبات والسهر إلى آخر الليل، فإنها مرت ببرود شديد على غير العادة رغم أن الطقس كان جميلا ومشجعا للاحتفال. بل حتى الصحافة السمعية البصرية التي كانت تتنافس لتقديم منوعات استثنائية تبعث الدفء في بيوت الأسر التونسية، بدت فاقدة لروح الانطلاق وغير قادرة على إنتاج الاحتفالية، إلى درجة أن إذاعة «موزاييك» التونسية، المعروفة بحرصها على خلق أجواء البهجة وبث أكثر ما يمكن من الأغاني، غيرت برنامج ليلة رأس السنة الميلادية وقدمت سهرة إنسانية تضامنية مع أهل غزة وحولت النصيب الوافر من الجوائز لفائدتهم.

ويمكن القول بشكل جازم إن كل تونس اجتمعت على الموقف نفسه مما يجري في قطاع غزة، حيث شدد الموقف الرسمي على ضرورة أن يتجاوز عقد قمة طارئة إصدار قرارات التنديد والإدانة والاستنكار إلى موقف حازم. وعبرت كافة أحزاب المعارضة التونسية بمختلف خلفياتها وآيديولوجياتها عن إدانتها للمحرقة الحاصلة متهمة النظام العربي الرسمي بالعجز وبالسلبية، وأعلن محمد بوشيحة الأمين العام للوحدة الشعبية أن حزبه سيخصص عام 2009 لفلسطين، وسيعد كافة البرامج الكفيلة بدعم القضية الفلسطينية ومناصرتها.

أما المحامون التونسيون، ومن خلال الهياكل الممثلة لهم، فقد أجمعوا على توجيه المسؤولية للنخب السياسية العربية الحاكمة، متوقعين أن تفضي هذه الأحداث إلى تعزيز العنف وترجيح آفاق العمل السياسي الراديكالي على حساب جهود التسوية الهادئة.

ولم يختلف موقف الشارع التونسي حسب الريبورتاجات التي أجرتها أغلب الصحف التونسية عن الموقف الرسمي ومواقف المجتمع المدني، إذ بدت النقمة على سكوت الساسة العرب القاسم المشترك بالإضافة إلى الاستياء من حالة الانقسام السياسي الفلسطيني بين حماس وفتح، باعتباره الثغرة التي سهلت لأكثر من طرف، عدوا ومتواطئا، التسلل منها والاستفادة من مخلفات الانقسام. ولعل المظاهرة الضخمة التي أقيمت صبيحة 1 جانفي التي جمعت 20 ألف مواطن تونسي من مختلف أطياف المشهد السياسي والنقابي والجمعياتي والتي رُفع فيها علم تونس وفلسطين وشعارات التنديد والاحتجاج، والتي تقدمها الوزير الأول في الحكومة التونسية والأمين العام للتجمع، يحمل أكثر من دلالة باعتبار أنها مسيرة تعبر عن موقف موحد لجميع الأطراف الرسمية والمدنية والشعبية في تونس.

ورغم تلك الأخبار التي تؤكد صعوبة وصول المساعدات واستحالة ذلك وكيف أن أهل غزة يعيشون محرقة محاصرة، فإن التونسيين تجاوبوا مع الحملة الوطنية للتبرع بالدم لفائدة الفلسطينيين وكذلك الشأن بالنسبة للحساب الذي تم فتحه لجمع التبرعات لأهالي غزة .

إن كل هذه المظاهر المساندة والمشاركة من بعيد، في شمال القارة الإفريقية، تعكس في الحقيقة عمق الحس العربي في المجتمع التونسي الذي كثيرا ما يُتناول في منظور أغلبية المجتمعات الشرقية بوصفه مجتمعا عقلانيا وعلمانيا وإن كان الكثير اليوم يُثني على اقتراح بورقيبة الشهير الذي شكل في لحظته صدمة وكان سببا في وصفه بوابل من الشتائم.

ولكن ما قد يغيب عن البعض أن بين المجتمع التونسي والفلسطينيين قصة خاصة جدا ذلك أن الموقف الرسمي التونسي منذ 1948 وإلى اليوم لم يتوان عن مساندة الحق الفلسطيني والوقوف بجانبه. كما أن احتضان الفلسطينيين بعد مغادرتهم بيروت عام 1982 مثل علامة فارقة في تاريخ علاقة الشعبين، حيث تم استقبال الزعيم الراحل ياسر عرفات ورجاله، وكانت تونس مقرا لمنظمة التحرير الفلسطينية طيلة عقد كامل. وربما ما زاد في تعاطف التونسيين وغضبهم ذلك الانصهار بين كثير من الأسر التونسية والفلسطينية من خلال رابطة الزواج من دون أن ننسى الطلبة الفلسطينيين الذين يشاركوننا الحياة والمعرفة والصداقات القوية التي تجمعهم بالطلبة التونسيين، فكل هذا يقوي الروابط ويجعل ما يحدث هناك كأنه يحدث في تونس حيث يتسرب قلق الطالب الفلسطيني والأسرة الفلسطينية والزوج الفلسطيني إلى محيطه.

فمن المعطيات التي أذكت التقارب السوسيولوجي بين المجتمعين أنه خلال قرابة أربعين سنة تخرج العديد من الطلبة الفلسطينيين، وحاليا يوجد ما يقارب 600 طالب فلسطيني في تونس، وهو ما يعني أن أربعة عقود من الاحتكاك الاجتماعي والعلمي أنتجت شبكة غنية من العلاقات المتينة، زادها مؤسسة الزواج والإنجاب قوة خاصة.

طبعا لا شك في أن كل المجتمعات العربية تعيش منذ بداية أحداث غزة الدامية الحزن والغضب وتتجاوب على قدر المستطاع، ذلك أن ما يُحرك كافة المجتمعات العربية هو نفس المنظومة الوجدانية والثقافية والدينية ولكن مع ذلك فلكل مجتمع عربي قصته الخاصة مع فلسطين ويمتلك بعض التفاصيل التي تُحدد له شكل الغضب ولون الحزن.

[email protected]