لا بديل عن التسوية؟

TT

كلما جرت جولة من جولات العنف الشديد في الصراع العربي ـ الإسرائيلي يظهر بوضوح شديد عقم الحل العسكري للصراع من ناحية، وأنه لا بديل عن التسوية السياسية والدبلوماسية للصراع من ناحية أخرى. وأعترف أن هناك بعضا من السخف عند عرض هذه العبارة في وقت تتكسر فيه النصال على النصال في معركة وحشية على أرض غزة، وتختبر فيه قوة الإرادة السياسية والعسكرية لدى الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي. ففي وسط هذه الحالة فإن الاعتقاد الذائع هو أن واجب الفكر والمعرفة أن يتخذ موقفا أخلاقيا وسياسيا من الصراع الدائر، خاصة عندما تجري صياغته وفق ثنائيات القاتل والضحية، والحق والباطل، والظلم والعدل. ولو كان الحال كذلك لكانت المهمة سهلة للعربي المفكر حيث الإدانة واجبة للعدوان الإسرائيلي الغاشم والإجرامي، والاستنكار فرض لعمليات القتل الموسعة الجارية ضد المدنيين العزل والبنية الأساسية الفلسطينية الفقيرة في مكوناتها، والاستهجان والكراهية معلنة لدولة قامت على العدوان واستمرت فيه على حساب أراضي الفلسطينيين والعرب سواء بالاستيطان أو بالقوة العسكرية.

ولكن للمحلل الاستراتيجي مهمة إضافية تشبه تلك الواقعة على الطبيب الذي عليه مواجهة مريض القرحة، أو في حالتنا الحالية السرطان، ليس باستنكار أو إدانة أو استهجان المرض، وإنما في الأساس تحديد كيفية التعامل معه، وعما إذا كانت المهمة جراحية لاستئصال المرض، أو أن المهمة علاجية للقضاء عليه أو للحد من انتشاره، أو حتى إعداد المريض للتعايش مع العلة. ولكن في كل الأحوال فإن مهمة الطبيب هي الإبقاء أولا على مريضه حيا، ومناعته ثانيا قادرة على المقاومة، والحفاظ ثالثا على إرادة الحياة لديه بما فيها القدرة على اتخاذ القرار ما بين خيارات قد تكون مؤلمة حينما يستحيل الشفاء من المرض، على الأقل في ظل ما هو متاح من توازنات قوى بين الجرثومة والمناعة، أو ما هو كاف من دواء فعال في لحظة زمنية بعينها.

وفي الصراعات الدولية الممتدة والطويلة فإن اللجوء للسلاح يقع بمثابة الجراح في دنيا المرض العضال، ولا بأس بذلك أحيانا إذا ما كان الطبيب عالما بنتائج استخدام مشرطه، ويعرف تحديدا ما يريد استئصاله. ولكن في حالتنا الراهنة، فإن الجراحان الإسرائيلي أو الفلسطيني لا يعرفان نتيجة العملية الجراحية؛ وفي خطاب أخير عدد السيد حسن نصر الله الفشل الإسرائيلي في الحرب الدائرة إلى عدم وجود، فضلا عن وضوح، أهداف إسرائيلية للعمليات العسكرية التي تجريها في غزة حيث لا يعرف أحد ما إذا كان الهدف هو إزالة حماس، أو وقف إطلاق الصواريخ، أو إعادة احتلال غزة مرة أخرى. ولكن ما لم يذكره السيد حسن نصر الله هو أن الأهداف الفلسطينية لم تكن معروفة هي الأخرى سواء كانت هي إنهاء التهدئة أو فتح المعابر أو تحرير فلسطين من النهر إلى البحر. وعندما لا يعرف الطرفان في صراع مسلح أهدافا محددة، فإنه لا يبقى لديهما إلا القدرة المتبادلة على الإيذاء المتبادل، وتحقيق أكبر قدر ممكن من نزيف الدم االذي يترك المرضى في حالة إنهاك وضعف شديدين. ولمن لا يصدق فعليه أن يعود إلى نتائج آخر الصراعات العربية الإسرائيلية التي جرت في لبنان خلال صيف 2006 حينما انتهى الصراع بجرح كبير في الهيبة العسكرية الإسرائيلية، ومعها جرى تدمير لبنان، اقتصاديا بما جرى لبنيته الأساسية، وسياسيا بهيمنة حزب الله على حياته السياسية حتى ولو أصبح بعيدا عن خطوط التماس مع «العدو» عما كان عليه قبل بدء القتال، ومنفصلا عنه بقوات احتلال دولية كثيفة، حتى لم يبق له من ميادين المعارك إلا قناة «المنار» التلفزيونية.

ولكن الغريب أن كلا من الطرفين لم يتعلم من الحرب اللبنانية الأخيرة، أو على الأرجح أنه جرى التعلم من دروس خاطئة، حيث تصورت إسرائيل أنه يمكنها أن تدير حربا أفضل إزاء عدو لا تراه من خلال تدمير أوسع وأشد قسوة، وتعلم الفلسطينيون أن بإمكانهم تحقيق نصر سياسى أو دعائي طالما استطاعوا الصمود وتحمل المكاره. وبينما كانت السياسة الداخلية الإسرائيلية ضاغطة على جماعة أولمرت وليفنى وباراك أن يحرزوا نصرا قبل الانتخابات الإسرائيلية، فإن السياسة الداخلية الفلسطينية التي فصلت قطاع غزة عن الضفة الغربية وضعت حماس وقادتها في حالة حصار اقتصادي وسياسي ومعنوي حاولت خرقه من خلال الاجتياح السكاني للحدود المصرية في مطلع عام 2008، وبوقف التهدئة وإطلاق الصواريخ وشن الحرب السياسية على مصر قبل نهاية العام.

وربما كان التعلم الخاطئ جزءا عضويا من تاريخ الصراع العربى ـ الإسرائيلي، وكان الذائع في الفكر العالمي أن العرب لا يتعلمون أبدا من التجارب التي يمرون بها. ولكن ربما آن الأوان لكي تكون الإشارة إلى أن إسرائيل لم تعد هي الأخرى تختلف كثيرا، وان استمرار العدوان والاستيطان والتوسع والإهانة للشعب الفلسطينى لن يؤدى أبدا إلى حل المعضلة الأمنية الإسرائيلية، ولن يحقق لإسرائيل اعترافا بالوجود أو بالشرعية حتى ولو كانت شرعية الأمر الواقع. ولن تختلف نتائج المعركة الحالية عن نتائج المعارك السابقة بعد تدخل الولايات المتحدة ومجلس الأمن والقوى الدولية المختلفة اللهم إلا أن المريض سوف يكون أقل مناعة وأكثر إنهاكا فتضاف جرعات جديدة من الكراهية، وأعدادا أخرى من الشهداء، وتتضخم مرارات التاريخ والأمن ومعها الأصوليات الدينية والسياسية.

ولكن أهم النتائج التي سوف تسفر عنها الحرب الراهنة فهي عبثية الحل العسكري للصراع على الأقل بالنسبة للعصر الراهن التي تعيش فيه الأجيال الحالية من الفلسطينيين والإسرائيليين. وبالطبع فإن كلا الطرفين لديه قناعات عظمى ويقين لا حدود له بوجود تأييد سماوي لدعاواه المختلفة، وأن الله لن يتركه دون نصر عظيم. ومن الجائز أن يكون لدى إسرائيل اعتقاد بأنها من خلال التكنولوجيا والاندماج في العالم العربي سوف تحقق من التفوق على الفلسطينيين وعلى عالم عربي متخلف ومقاوم للثقافة العصرية ما يجعلها تضمن النصر على المدى البعيد. ومن الجائز كذلك أن يعتقد الفلسطينيين ومن ورائهم الأمة العربية والإسلامية أن حقائق القوة الجغرافية والديمغرافية سوف تسفر عن نفسها في النهاية وتحقق نصرا مماثلا لذلك النصر الذي تحقق للصليبيين بعد ثلاثمائة عام.

كل ذلك جائز حتى ولو لم يوجد فيه إلا الاحتمالات والمشابهات التاريخية، فلا العرب ولا الإسرائيليين سوف يبقون على حالهم، ولا الوقت هو وقت الصليبيين بل هو القرن الحادي والعشرين بألغازه وأحاجيه الجديدة التي لا يعرفها أحد بعد. ولكن المؤكد أنه لا يوجد في الواقع الراهن إلا النزيف والإنهاك للجانبين، وبالنسبة للعالم العربي لا يوجد إلا استنزاف القوى والاهتمام في صراع لن يكون له آخر في مستقبل منظور بعيدا عن التنمية ومعالجة عناصر القوة الحقيقية. ومن ثم فإن المعركة الراهنة لن تكون سوى درس إضافي على أنه لا يوجد بديل حقيقي للتسوية السلمية على أساس من مبدأ الدولتين. والعجيب أن كافة استطلاعات الرأي العام على الجانبين الفلسطينى والإسرائيلي تسجل أن الأغلبية توافق على حل الدولتين، ولكن الأغلبية كذلك تسجل أن ذلك مستحيل الحدوث لأن الطرف الآخر لا توجد لديه لا النية ولا المقدرة للتوصل إلى هذا الحل. وهذه شكوك معتادة في الصراعات التاريخية الكبرى، ولكن التعامل معها ليس أصعب من شن الحروب وهناك بالفعل من الإطارات القائمة من وثيقة جنيف وخريطة الطريق والمبادرة العربية، بل حتى من نتائج المفاوضات الفلسطينية ـ الإسرائيلية، والسورية ـ الإسرائيلية، السابقة والحالية، ما يكفي لعملية انطلاق عملية سياسية جديدة من أجل تسوية الصراع.

وقديما قيل إن في الأزمات دائما مخاطرة وفرصة، وبالنسبة لنا وللإسرائيليين وللعالم كانت هناك قدرة لمعالجة المخاطر بإعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه بعد دفع ثمن فادح، فلماذا لا يكون الأمر هذه المرة مختلفا، ويكون هناك استعداد لبذل الجهد لانتهاز الفرصة حيث لا توجد فرصة تماثل وصول الطرفين إلى قناعة بفشل الحل العسكري؟