فيم ينفع وجود إسرائيل؟

TT

ليس الباعث على هذا التساؤل هو إنكار حق إسرائيل في الوجود، بقدر ما هو تأمل في ما تمثله هذه الدولة في النطاق الإقليمي والعالمي. ومن قبلي طرحه يهودي أميركي لا يمكن اتهامه باللاسامية، هو نورمن بيرنباوم، الذي كتب مستنكرا أن تكرر المنظمات الناطقة باسم اليهود الأميركيين أن ما هو نافع لإسرائيل، نافع أيضا لأميركا. ويرجع الاعتقاد في ذلك إلى تصورات شاذة تداعب خيالات متطرفين بروتستانيين يربطون إنشاء دولة إسرائيل بنهاية العالم.

وقال إن القدس قد تغير الحاكمون فيها عشرات المرات منذ الإمبراطورية الرومانية. ولا شك في أن السياسة الإسرائيلية القائمة على الخشونة والاحتقار في حق العرب ستقود إلى أن يقع تغيير آخر، وفي القريب العاجل. ونبه إلى الوهم القائل إن إسرائيل وُجِدَتْ لتحمي يهود الشتات، في حين أن الشتات هو الذي يحمي إسرائيل. وبعد استعراضٍ سريعٍ لمميزات السياسة الإسرائيلية في العقود الأخيرة دعا حكومة بلاده إلى أن تلتزم عدم التحيز في الشرق الأوسط. ويؤكد أن ذلك لن يضر بإسرائيل، بل سيساعد على الحد من غلواء العدوانية والروح العسكرية اللتين تكيفان الثقافة السياسية في إسرائيل. وهذا العنصر الأخير أصبح واضحاً أنه جوهر السياسة الإسرائيلية. فبمناسبة اقتراب حملة انتخابية في إسرائيل يتبارى القادة السياسيون فيها على إظهار قدرتهم على إلحاق الأذى بالشعوب المجاورة لهم، في فلسطين أو غيرها. وقد كان عزمي بشارة دقيقا حينما وصف عملية غزة بأنها «حرب جبانة». ففي هذه الحالة، كما في مرات سابقة، لا يتعلق الأمر بمواجهة بين جيشين، بل هي مجرد إمطار السكان والأهداف المدنية بأطنان من القنابل.

وفي موازاة العمل العسكري، يتسابق السياسيون الإسرائيليون من أجل أن يتمكن أي واحد منهم غدا من أن يتبجح بأنه قتل من الفلسطينيين أكثر مما كان يمكن أن يفعل الآخر. وثبت عبر أمثلة قريبة وبعيدة من التاريخ أن إسرائيل بلد لا توجد له سياسة معينة تخدم أهدافا معينة، بل لا توجد إلا حملة انتخابية مستمرة يتبارى فيها زعماء الأحزاب على نيل الأصوات بممارسة القتل والتخريب. وهي الهمجية في أصلها الخام. فحينما كانت إسرائيل مقبلة على ذات انتخابات، وأحس شمعون بيريز بقوة شعبية غريمه ناتانياهو، وجد الفرصة سانحة في التجاء مواطنين مدنيين في الجنوب اللبناني إلى مبنى للأمم المتحدة، فسلط عليهم سلاح الطيران، وهدم المبنى على من فيه، أملا في انتزاع بضعة أصوات على حساب منافسه. ولكي يبدد السمعة السيئة، التي ألصقت به خطأ، كسياسي من الحمائم كان في مواجهة سياسي من الصقور، أمر بيريز بذلك الهجوم في قنا ليسجل أنه لا يقل دموية عن منافسه. وكان زعيم الليكود قد تفوق عليه بـ26 ألف صوت فقط.

إن السياسيين الإسرائيليين لا يتنافسون في غالب الأحوال على مخططات سياسية بل على برامج تقوم على إثبات القدرة على الفتك، وهو ما يطلبه منهم رأيهم العام، إذ أثبت استطلاع للآراء نشرت نتائجه في الأسبوع الماضي أن 81 % من الإسرائيليين يؤيدون عملية «الرصاص المتدفق» التي يقودها إيهود باراك، الذي كان قد منيَّ بهزيمة منكرة، حينما ترشح للانتخابات، وهو على رأس حزب العمال، مقترحا إصلاحات سياسية هيكلية، كان يمكن أن تؤدي إلى إقامة دولة سوية على غرار ما هو الحال في العصر الحديث. إن وجود هذه النسبة المرتفعة لتأييد قصف السكان المدنيين، حيث إصابة «الهدف» محققة دائما بكل تأكيد، لا يمكن أن يوجد لها مثيل في غير المجتمع الذي أنشأته دولة إسرائيل التي هي من نمط خاص. ومجتمع من ذلك القبيل هو خطير على كل من يجاوره. وفي نهاية الأمر هو خطير على نفسه أيضاً، لأن الإجماع السائد فيه على الثقة بالقوة والعنف يدل على استحالة الاقتناع بالتعايش مع الغير، وحالة مثل هذه لا يمكن أن تدل إلا على بارانويا في أشد درجات الخطورة.

وكان من المثير أن يدلي مفكر يصنف نفسه منذ أربعين عاما في معسكر اليسار، بما يفيد اقتناعه التام بعملية غزة. فقد نشرت جريدة «إيل باييس» الإسبانية منذ أيام (عدد الأحد) حديثا مع أبراهام جيهوشوا قال فيه إنه لا أحد يرتاح إلى ما يشاهد حاليا في غزة، لكن القرار (تنظيم القصف) سليم من الناحية الأخلاقية (كذا). وبرر القسوة التي اتسم بها القصف المتواصل للمدنيين بأن «الفلسطينيين لهم طاقة على التحمل كبيرة جدا، وهذا ما يجعلهم أقوى منا». وقال إن الجواب على إطلاق الصواريخ من جانب الفلسطينيين كان لابد أن يكون أكبرَ، فقد حاولت الحكومة الضغط بإقفال الممرات الحدودية، ثم بقطع الكهرباء ولم يتأت إيقاف القذائف. يجب القول إن القصف الجوي لغزة صاحبه قصف إعلامي قوي تعبأ له العديد من المفكرين الذين لهم سمعة إيجابية في العالم الغربي، منهم دافيد غروصمن وأموس عوز. وكل من تدخل منهم في تبرير القصف، حاول أن يدعم قرار الحكومة بترديد حجتين رئيسيتين؛ هما أن المستهدفين هم المتشددون الأصوليون، وأن الهدف إيقاف القصف بالصواريخ.

ووقع الجواب بحجج متينة على هذا المنطق في بيان أصدره اتحاد يهود فرنسا من أجل السلام، تضمن التنديد بحجم «الرد»، غير المتناسب مع مفعول القذائف. وذكر أن القطاع يخضع لضغط متواصل منذ تسع سنوات، وأن الشعب المحاصر ما كان منتظراً منه أن يرد بطريقة أخرى على التطويق المحكم والحرمان من الغذاء والأدوية والوقود والعتاد المدرسي، بتأييد من الحكومة الفرنسية والاتحاد الأوروبي. واعتبر البيان أن أمن إسرائيل من أمن غزة.

لا جديد فيما حدث بغزة. فقد تواصل لعدة سنوات في الضفة والقطاع تحطيم المنازل، واقتلاع الأشجار، وسرقة أموال السلطة الفلسطينية المودعة البنوك الإسرائيلية. وفي كل مرة تسنح الفرصة، يتم تحطيم المنشآت من مساكن

ومدارس ومستشفيات ومساجد، بل إن المطار والميناء في غزة وقع تحطيمهما بمجرد الفراغ من بنائهما، وكذلك كان الحال مع التلفزيون الذي موله الاتحاد الأوروبي.

ومن الناحية السياسية يتم كل شيء من أجل إقامة الحواجز دون السلام، وكلما حانت الفرصة وقع التخلي من جانب إسرائيل عن الاتفاقات السياسية التي يتم الوصول إليها بقصد التمهيد للسلام وتنظيم التعايش بين الإسرائيليين والدولة الفلسطينية. وكلما لاحت في الأفق فرصة لفتح كوة أمل، جاءت «انتخابات سابقة لأوانها» من أجل إعادة رسم خارطة سياسية جديدة تؤدي إلى غلق طريق الانفراج، وسن سياسة جديدة لا توصل أبدا إلى سلام ولا إلى تعايش، مع الفلسطينيين ولا مع الجيران.

وكما حصل في مجلس الأمن، تجد إسرائيل من واشنطن الدعمَ المؤكدَ الذي يحول دون إعمال المواقف الدولية الكفيلة بحفظ الأرواح وتيسير الأجواء لإقامة تفاهمات سياسية. لقد ثبت أن إسرائيل في صورتها الحالية هي فقط آلة للفتك والتحطيم، وخلق الاضطراب في المنطقة والعالم، وعرقلة تطبيع حياة اليهود في مجتمعاتهم، وتصعيد التوتر بتنشيط شتى أنواع التشدد. وهي الاستثناء الوحيد في الكرة الأرضية للإفلات من العقاب حينما ترتكب جرائم يحرمها القانون الدولي.