المستر بولتون

TT

الوجه الإسرائيلي القاتل ليس بجديد. والوجه الأميركي الصلف والمتعالي، لا جديد فيه. والوجه الأوروبي البهلواني الذي يخشى دائما السقوط من الحبل الممدود بين القاتل والضحية، لا جديد فيه هو أيضا.

ولا جديد عربيا بالتأكيد. كلما كبرت المأساة كلما هزل حجم الرد الآتي من الأطرش المسمى الأسرة الدولية والأخرس المسمى أوروبا والنفَّاخ المتأوه المعروف باسم الوطن العربي الكبير.

كمثل كل مرة منذ 1948، بلا أي استثناء، تحولت مأساة غزة الى ترادح بين العرب. والى تصفية حسابات بين العرب. والى استغلال مواقع واستثمار ظروف والى المشي اختيالا فوق نهر من دماء الأطفال والنساء والأبرياء الذين تصر اسرائيل على انهم جميعا عاملون في حركة حماس. ولا يكف المشهد العاري ـ من عار ـ عن تكرار نفسه: دبابات وطائرات وبوارج تملأ طرق غزة مقابل بضع شاحنات لا تكاد تعرف طريقها الى أودية العويل وسهول الدماء والموت. يقترح السفير الأميركي السابق لدى الأمم المتحدة جون بولتون ان يُصار الى ضم غزة الى مصر والضفة الغربية الى الأردن. ويعبر المستر بولتون أولا وأخيرا عن عمق الفكر الصهيوني والرؤية الأميركية المتأثرة منذ البداية بالرؤية الصهيونية. وإذا كان من دليل على أن حرب غزة هي محاولة في تصفية القضية، وليس في تصفية حماس، فقد عبر بولتون بوضوح عن هذا المخطط القديم الذي يعود الى الظهور مرة بعد أخرى.

على أنه يتخذ هذه المرة أهمية مختلفة بسبب حجم حرب الإبادة في غزة وتصرف اسرائيل، دولة ومجتمعا وجيشا، من جهة حيال غزة الضحية، ومن جهة أخرى في التجاهل المعلن لكل خطوة أو وساطة أو عمل دولي يهدف ولو الى هدنة انسانية تمكن غزة من دفن موتاها.

جون بولتون هو الصوت الحقيقي والمكشوف والمفضوح. وليس من عادته ـ مشكورا ـ ان يغلف مواقفه وآراءه بأي نوع من السيلوفان الديبلوماسي. فما هو مطلوب منه أن يقوله يعبر عنه من دون أن يحسب حسابا لأحد. وبما انه رجل أمضى زمنا غير قليل في الخارجية الأميركية فهو يعرف ان هذه الفكرة، أي تصفية القضية الفلسطينية نهائيا، تراود الكثيرين من المسؤولين الأميركيين عبر اختلاف الادارات. ويحاول بعضهم، أمثال بولتون إحياء فكرة «الوطن البديل» وطرحها لمعرفة ردود الفعل الدولية عليها. خصوصا في حالات مأساوية قصوى من هذا النوع، حيث يفترض أن يكون اليأس الفلسطيني في ذروته الانسانية. والى جانب هذا التفكير تعمل اسرائيل على مشروع آخر وهو زرع فلسطين بأجهزة المراقبة الدولية والمخافر التي من شأنها ان تلغي في النهاية أي عمل نضالي في الداخل. وبدل ان تكون الدولة العتيدة دولة منزوعة السلاح تكون الدول العربية المتاخمة لاسرائيل مجردة كلها من أي فعالية حدودية بموجب الاتفاقات الدولية التي تحكم هذه الوقائع المستجدة. تحدث كل هذه المستجدات والمشهد واحد لا يتغير: عدوان اسرائيلي لا يتوقف وعداء أميركي في مجلس الأمن وبهلوانات راقصة فوق الحبل الأوروبي. وتمزق عربي تاريخي لا شفاء منه.