الأهم والأخطر هو ما بعد الحرب على غزة

TT

بغض النظر عن النتائج الميدانية، التي يبدو أنه لن يطول انتظارها، فإن الأيام القريبة المقبلة ستؤكد بما ستحمله ان الهدف الحقيقي لمعركة غزة إن بالنسبة للإسرائيليين وإن بالنسبة لحركة حماس نيابة عن الحلف الذي تنتمي إليه هو إعداد مسرح الشرق الأوسط لألاعيب سياسية جديدة غير الألاعيب السابقة، فهناك إدارة أميركية ستحل بالبيت الأبيض بعد أقل من أسبوعين ولا بد من الإسراع بالترتيبات المكتوبة بالرصاص والصواريخ لوضعها أمام واقع آخر غير الواقع الذي كان قائماً على مدى أعوام مرحلة الإدارة الجمهورية المغادرة.

لأن إيران أرادت استقبال إدارة باراك أوباما بمعادلة جديدة في الشرق الاوسط، الذي أصبح منذ سقوط الاتحاد السوفياتي وانهيار قوة العراق بعد مغامرة غزو الكويت البائسة ميداناً تتصارع فيه ثلاثة أطراف رئيسية هي الجمهورية الخمينية والولايات المتحدة وإسرائيل، فقد دفعت طهران حماس التي تشكل رأس جسر لها في القضية الفلسطينية الى التصعيد والمزيد من التصعيد واستدراج الإسرائيليين الى هذه الحرب التي كانوا يريدونها ويسعون إليها وكانوا بانتظار مثل هذه المبررات التي توفرت بعد انهيار الهدنة أو التهدئة مع حركة المقاومة الإسلامية.

منذ فترة وإيران تواصل السعي، إن في عهد نظام الشاه السابق محمد رضا بهلوي وإن في عهد نظام الثورة الخمينية، لتحتل الموقع القيادي، الذي تعتقد أنها تستحقه وتصر على أنها تستحقه، في الشرق الأوسط، ولذلك ولأنها لم تستطع التفاهم على حدود هذا الدور في إطار المساومة المطلوبة مع الإدارة الجمهورية المغادرة التي احتلت البيت الأبيض لثمانية أعوامٍ فإنها لجأت عشية تسلم إدارة أوباما مهامها الى تحريك كل بيادقها لإعادة خلط الأوراق في هذه المنطقة والخروج بمعادلة غير المعادلة السابقة لتستقبل بها الإدارة الديموقراطية الجديدة وتضعها أمام واقع جديد. ولذلك فقد بادر الإيرانيون ومعهم أطراف حلف «فسطاط الممانعة»، الذي «يتعرْبش» بقاطرته بعض الذين يسعون لحجم أكبر من حجمهم ودورٍ أضخم كثيراً من قدراتهم، الى التمهيد لهذه الحرب الأخيرة، التي أرادوها نسخة طبق الأصل عن حرب حزب الله بلبنان عام 2006، بهجومٍ «شوارعي» كاسح على مصر على اعتبار أنها تشكل الحلقة الرئيسية في السلسلة العربية جرى التنسيق له بين التنظيم العالمي للإخوان المسلمين ودائرة الولي الفقيه في طهران وبالطبع بمشاركة «الإخوة الأعزاء» في دمشق وباستخدام حماس والقضية الفلسطينية كغطاء لهذا الهجوم الذي استهدف أيضاً ما يسمى دول الاعتدال الأخرى أي المملكة العربية السعودية والأردن ودولة الإمارات العربية المتحدة. كان لابد من ان تعم الفوضى هذه الدول، وكان لابد من اختطاف شوارعها من أيدي أنظمتها وكان لا بد من استدراج الإسرائيليين الذين بدورهم كانوا ينتظرون مثل هذا الاستدراج على أحر من الجمر الى هذه الحرب ليتحقق «انتصار إلهي» جديد، ولو إعلاميّاً وعلى غرار ما حصل بالنسبة لحرب حزب الله عام 2006 ليخرج الولي الفقيه يرفع يده بإشارة النصر ويستقبل الإدارة الأميركية الجديدة بمعادلة تقدمه على أنه هو صاحب القرار في هذه المنطقة، وأنه هو الذي يحلِل، وهو الذي يحرم وأنه هو الرقم الصعب في هذه المعادلة الجديدة.

كانت الخطة تقضي بإضعاف مصر حتى حدود الإنهاك وإشغال الدول «المعتدلة» الأخرى بشغب الشوارع الذي كان قد تم الإعداد له جيداً ومنذ فترة بعيدة وكانت الخطة تقضي أيضاً باستدراج الإسرائيليين الى حرب محدودة يتم استغلالها إعلامياً الى أبعد الحدود، وهذا هو الذي يفسر مجيء أمين عام المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني سعيد جليلي على عجل الى دمشق وبيروت لتبليغ أوامر وتعليمات مرشد الثورة علي خامنئي القاضية بضرورة ضبط الأعصاب وعدم القيام بأي عمل غير محسوب العواقب يخلِّ بالمعادلة المفترضة المطلوبة ويقلب النتائج المرجوة الى عكسها. وهكذا فقد ترك حلفاء «فسطاط الممانعة» غزة لتواجه ما واجهته وحدها، فدمشق العصية على الاستفزاز، والتي هي الآن كما في السابق ترفض الدخول في معركة قبل أوانها، اكتفت بأن لقنت «العدو الصهيوني» الدرس الذي لن ينساه من خلال الإعلان عن إيقاف «المفاوضات غير المباشرة» المتوقفة أصلاً والوليُّ الفقيه في طهران بادر وبسرعة وبمجرد ان بدأت صواريخ الطائرات الإسرائيلية تقصف «القطاع» المنكوب بوحشية ما بعدها وحشية الى إصدار فتوى طالب فيها المسلمين بالابتهال الى الله ان ينصر أشقاءهم الفلسطينيين على القوم الظالمين ويتقبل شهداءهم في جنان النعيم الخالدة. كانت حماس تتوقع، رغم معرفتها الأكيدة بأبعاد ما أراده الإيرانيون قبل انتقال إدارة الرئيس المنتخب أوباما الى البيت الأبيض، ألا يكتفي الشيخ حسن نصر الله بشتم مصر حتى انتفخت أوداجه وبتحريض جيشها وشعبها على الرئيس مبارك ونظامه وأنه سيتدخل في لحظة العسرة والضيق بصواريخه ويفتح جبهة الشمال مع إسرائيل لتخفيف الضغط عن غزة وأهل غزة. لكن هذا لم يحصل والسبب هو الأوامر الصارمة التي أصدرها الولي الفقيه، والتي جاء بها على جناح السرعة من طهران سعيد جليلي وقضت بضرورة ضبط الأعصاب وعدم توسيع رقعة القتال خوفاً من مستجدات غير محسوب حسابها، وحتى تكون هناك إمكانية لتحويل مذبحة غزة الى انتصارٍ وتحويل مأساة شعبها الى الرقم المطلوب في المعادلة الجديدة التي لابد من استقبال الرئيس الأميركي الجديد بها كأمر واقع لا بد من ان يتجسد تفاهماً مع إيران على ما هو مطلوب وما هو غير مطلوب والاعتراف بها على أنها الشريك الرئيسي في الشرق الأوسط. لا شك في ان هذا الذي تعرضت له غزة ولا تزال تتعرض له يوجع القلب لكن الأخطر من كل هذا الدمار وكل هذا القتل والتذبيح هو ما بعد هذه الحرب، فالخوف كل الخوف هو ان تكون هناك بعد كل هذا الذي جرى «لعبة أمم جديدة» جرى التحضير لها باستهداف مصر والدول «المعتدلة» لإبعادها عن الصفقة التي سيتم إبرامها بعد هذه الحرب المدمرة وبغض النظر عن النتائج النهائية التي ستكشفها الأيام القليلة المقبلة.

إن هناك ما هو أبعد من التوصل الى وقف لإطلاق النار وأبعد من فتح معابر غزة في إطار تهدئة أو هدنة يتم الاتفاق عليها خلال أيام، ويقيناً ان هدف سياسة ضبط الأعصاب التي اتبعتها إيران ومعها حلفها إزاء هذه الحرب المدمرة هو الإبقاء على أبواب المساومات مع الأميركيين والإسرائيليين مفتوحة ولتصبح هناك إمكانية لصياغة المعادلة الجديدة لهذه المنطقة وبحيث يأخذ الإيرانيون بعض ما يريدونه إن ليس كل ما يريدونه وتأخذ إسرائيل بدورها ما لها وكذلك الولايات المتحدة. لا يمكن ان تنتهي هذه الحرب بلا نتائج سياسية والمعروف ان حصار بيروت عام 1982 قد انتهى بعد إخراج منظمة التحرير وقواتها من العاصمة اللبنانية بقرارات قمة فاس الثانية المعروفة، وأن حصار عرفات في طرابلس في الشمال اللبناني، الذي شارك فيه الى جانب إسرائيل الأشقاء وأبناء العمومة وذوو القربى، قد فتح أبواب تلك المفاوضات مع الأميركيين التي كانت بداية عملية السلام التي بعد مؤتمر مدريد شهدت اتفاقيات أوسلو وتوقفت في كل المحطات اللاحقة التي توقفت فيها.

ستترتب على هذه الحرب تحولات خطيرة في هذه المنطقة، وهذا يستدعي الحذر والمزيد من الحذر ويستدعي حماية منظمة التحرير والسلطة الوطنية، وبالتالي القضية الفلسطينية كقضية من لعبة يجري حبكها باتت ملامحها واضحة ومعروفة كما يستدعي ان ترفع الدول التي تسمى دول الاعتدال درجة التنسيق بين بعضها بعضاً، وأن تتعامل مع هذه المستجدات بمنتهى الحزم والجدية.. إن عليها ألا تترك الميدان ليلعب فيه الإيرانيون والأميركيون والإسرائيليون وحدهم، وإن عليها ان تتعامل مع إدارة الرئيس أوباما بغير الطريقة التي تعاملت بها على مدى الأعوام الثمانية الماضية مع إدارة جورج بوش الراحلة.