افتراس «حماس» أم «عبّاس»؟

TT

ليس ما بعد حرب غزة كما قبلها. فبعد المجازر المروعة التي ارتكبتها إسرائيل بات مألوفاً أن نسمع في التظاهرات الحاشدة والغاضبة حناجر تطلق عبارات من نوع: «خيبر خيبر يا يهود جيش محمد سوف يعود»، تضاف إلى صيحات تكبير ممزوجة بوعيد. وإلى جانب صورة لحسن نصرالله ترفع صورة أخرى للشيخ أحمد ياسين أو القيادي في حماس الذي استشهد مؤخراً في غزة نزار ريان فيما يرفرف العلم الأصفر لحزب الله إلى جانب الأخضر لحماس دون حساسيات من أحزاب دينية يخشى تطرفها أو نزقها. فقد أذابت أنهار الدماء التي سالت مخاوف كثيرة كانت تطفو على السطح وأيقظت مخاوف أخرى أكثر مصيرية.

لم يعد السؤال عند كثيرين، ماذا سيفعل الإسلاميون لو قويت قبضتهم، بقدر ما تزعزع صور الجثث الفلسطينية ضمائر خلدت إلى طمأنينتها طويلاً في خدر لذيذ. مشاهد تموز 2006 في لبنان تتكرر في غزة 2009 بنسخة أكثر نازية وإجراماً. الوحش الإسرائيلي يزداد شراهة وعطشاً لامتصاص الدماء، وتحطيم جماجم الأطفال. «دراكولا» يشهر أنيابه من جديد بعد أن تضخم وانتفخ بفعل نهش اللحم البشري، يهجم على ضحايا جدد حاملاً يافطة «محاربة الإرهاب» والعالم يتفرج. الضحايا العزّل حشروا وراء أسوار أغلقت عليهم بإحكام باسم «القانون الدولي» ولا يحق لأحد أن يدخل عليهم سوى هذا الوحش الشاهر أنيابه وحقده ونيرانه الفوسفورية يذيب بها أرواحهم.

النظام العربي مخنوق الصوت والشارع يصرخ. المشهد سوريالي وفظيع، فكيف تسأل بعده، إن كان القصد افتراس «حماس» أو «عباس» أو «فرناس»، ومدارس غوث اللاجئين تحرق بمن استغاثوا فيها، وسيارات الإسعاف تنسف بجرحاها ومسعفيها، والبيوت تقصف بقاطنيها. جهنم غزة تحرق الأشلاء وتجعل العقلانية ضرباً من الهلوسة. يتحدث مراسل جريدة «ليبراسيون» عن حالة غير منتظرة في الضفة الغربية: «الغضب يتصاعد ضد محمود عباس. فتح تفقد 20% من مؤيديها في الأسبوع الأول من الحرب وكوادرها يتسربون منها. ولولا قوى الأمن الفلسطينية والوجود الإسرائيلي لما بقيت السلطة صامدة» وبالعنوان العريض تقرأ في الصحيفة الفرنسية: «السلطة الفلسطينية تفقد مصداقيتها». الأتراك يخرجون من علمانيتهم وأوروبيتهم إلى الشارع عائدين إلى واجبهم الإسلامي الذي يناديهم. أحد المسؤولين عن التظاهرة يقول: «آن للمسلمين أن يلتفتوا للمصالح التي تجمعهم». رجب طيب أردوغان يجوب العواصم باسم الدور التاريخي لتركيا في المنطقة. عاد العثمانيون بعد الإيرانيين والحبل على الجرار. العروبة انطفأت ولا بد من شعلة أخرى تسد هذا الخواء المريع والهلوسة المتصاعدة. عربي «معتدل» يعيب على عربي آخر «مقاوم» في مناظرة تلفزيونية أنه سجين فكر أكتوبر بينما ينتمي هو «أي المعتدل» إلى فكر 1973. لم ينتبه زميلنا «المعتدل» إلى ان الفكرين باتا غابرين ويعودان إلى تاريخ بائد. لم يعد يعرف العرب في ضياعهم الراهن إلى ما يعودون، بعضهم اختار رجعة رمزية إلى كوفية أبو عمار، التي ارتفع سعرها في لبنان واحتلت الواجهات. منذ ايام كان الشبان يلبسونها مزخرفة، مشوهة المعالم، تختلط فيها الألوان او الرسوم كما هو الوطن في أذهانهم، اليوم تبدو الصورة أكثر وضوحاً، على ما يبدو، استعيدت الكوفية الفلسطينية كرمز وطني. ففي المحن يستبطن الضعفاء خوالجهم، وينبشون في ضمائرهم.

يسأل الملك الأردني عبد الله بن الحسين وهو قلق عما بعد غزة، وهو محق حين يقول ان ثمة مؤامرة تحاك على العرب وأن القضية تتجاوز القضاء على حماس. فلا شيء غير التآمر يصلح للتعامل مع عرب لا يعرفون لأنفسهم اسماً أو انتماءً. سخر الإسرائيليون ذات يوم من العرب وقالوا انهم «يغيرون راياتهم مع كل مرحلة، ولا يعرفون أي شعار يرفعون، وأبطالهم مرحليون وزائلون»، كناية عن التيه والضياع. لكن إسرائيل تنسى ان الشيء الوحيد الذي لم يتغير، وما زالت تكابد من أجله هو أنها كريهة ومشؤومة وموبوءة.

يوسي سريد، عضو الكنيست السابق ومؤسس حزب «ميرتس» في مقالة له نشرها مؤخراً في «هآرتس» اعترف بأنه لو كان فلسطينياً لما كان إلا إرهابياً، بعد أن أغلق كل أفق ممكن في وجهه. ولعل الموجات العاتية من العوربة والأسلمة وما سمي بعد ذلك بالنهج الإيراني وربما سيتلوه العثماني، لن تكون سوى عباءات تتبدل لمسمى واحد هو «مقاومة الاحتلال». و«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها» تلك الأنشودة القميئة التي يحمل لواءها الغرب لن تصمد، وستتصدع كما تتداعى الآن فكرة الدولتين إن لم تكن قد انهارت أصلاً، بفعل شلالات دماء أطفال غزة. لقد استبق إدوارد سعيد كل هذا الهذر الدموي حين اعتبر أن الدولة الواحدة التي يتعايش بها مسلمون ومسيحيون ويهود على أرض فلسطين هي الحل. يهود إسرائيل يرفضون المساس بالغيتو الذي سيجوه بجدار منصوب من الجماجم العربية، لكن هذه المنطقة التي بقيت مفتوحة للأديان والغزاة والانصهارات الحضارية الكبرى ستلفظ ذات يوم قلعتهم العنصرية المنكفئة على حقدها. وبينما يدرك مصاصو الدماء أن القتل لا يحمي اصحابه فإن دماء كثيرة تسفك، وأطفال فلسطين المذبوحين يحيلون أيامنا كوابيس لا فكاك من رعبها.

[email protected]