غزة: مأساة للجميع

TT

مع دخول الحرب في غزة أسبوعها الثالث، ينهمر علينا وابل من التحليلات، ولا تدور هذه التحليلات حول السبيل إلى وقف نزيف الدماء ـ فلا يوجد من لديه حل لذلك ـ وإنما حول الأسباب المحتملة للأزمة. وتتنوع الأسباب المقترحة على هذا الصعيد ما بين وجود حرب كاملة بين الحضارات، وصولاً إلى محاولة «حماس» كسر العزلة الإسرائيلية التي أضرت بشدة بالمصالح التجارية للحركة داخل قطاع غزة.

إلا أن هناك المزيد من الأسباب الواقعية التي ينبغي دراستها. على سبيل المثال، ربما كانت هناك رغبة لدى وزير الدفاع الإسرائيلي وزعيم حزب العمل، إيهود باراك، في إنقاذ معسكره من التعرض لهزيمة في الانتخابات العامة المقرر عقدها الربيع القادم. وربما يكون لدى زميلته وزعيمة كديما، تسيبي لفني، أجندة شخصية. ونظراً للاتهامات التي تتعرض لها من قبل خصومها بالتراخي واللين، ربما لكونها امرأة، فقد ترغب لفني في رسم صورتها كقائدة حرب على غرار غولدا مائير. بالنسبة لإيهود أولمرت، رئيس الوزراء، فإنه ربما يرغب في أن يترك وراءه انطباعاً أفضل من ذلك الذي خلفته الحرب ضد «حزب الله» في لبنان منذ عامين.

أما الشبح الذي يخيم بظلاله على كل هذه الشخصيات فهو بنيامين نتنياهو، زعيم حزب الليكود، الذي عارض الانسحاب الأحادي الجانب من قطاع غزة، وهو الإجراء الذي منح «حماس» فرصة بناء إقطاعية تخضع لسيطرتها وسحق خصومها الداخليين والشروع في لعبة إطلاق الصواريخ ضد إسرائيل.

ومن بين الأسباب المحتملة الأخرى وراء اتخاذ إسرائيل قرارها بضرب «حماس» في هذا التوقيت تحديداً، سبب يتعلق بخوف الدولة اليهودية من الجمهورية الإسلامية في طهران، فبعد ما يزيد على العام من الجدال المحتدم، قررت النخبة الإسرائيلية أن تهديدات الرئيس محمود أحمدي نجاد بمحو إسرائيل من على الخريطة يجب التعامل معها بجدية. والآن، لم تعد إمكانية مهاجمة إسرائيل للمنشآت النووية الإيرانية مجرد خيال، رغم أن هذه الخطوة ربما تضر بالعلاقات الإيرانية ـ الإسرائيلية على نحو يتعذر إصلاحه حتى مع مجيء نظام جديد في طهران. وعليه، فإذا ما قررت إسرائيل توجيه ضربة عسكرية لإيران، فإن عليها التأكد أولاً من أن حلفاء طهران وعملاءها القريبين منها لن يفتحوا جبهات جديدة ضد الدولة اليهودية. وحالياً، تتمتع طهران بثلاثة مصادر إقليمية للقوة: النظام البعثي في دمشق وتحالف نصر الله وعون في بيروت و«حماس» في غزة.

وتمكنت إسرائيل بالفعل، بمساعدة تركيا، من تحييد السوريين من خلال إثارة إمكانية الدخول في محادثات سلام وإعادة مرتفعات الجولان. والآن، بات من المؤكد أن دمشق لن تخاطر بالدخول في حرب إقليمية أوسع لمجرد إرضاء ملالي طهران.

في ما يتعلق بنصر الله وعون، يعتقد الإسرائيليون أنهما باتا في وضع لا يمكنهما من تشكيل خطر واضح وقائم ضد إسرائيل، فبالتأكيد لن يدعو عون الموارنة للانضمام إلى الجهاد دعماً لأحمدي نجاد. أما نصر الله، فرغم انتصاراته الأسطورية، فإنه يدرك تماماً أن أي جولة جديدة من القتال سوف تنتهي على نحو مختلف. على أية حال، لن تكون مفاجأة أن تتحول إسرائيل، بعد انتهائها من التعامل مع «حماس»، نحو «حزب الله» لتصطحبه مرة أخرى إلى طبيب الأسنان كي تخلع له آخر الأسنان التي أمدته طهران بها.

وبذلك لم يعد أمام «حماس»، بعد أن دمرت روابطها بكافة الدول العربية، خيار سوى التطلع نحو طهران للحصول على العون. من ناحيتها، تدعي الآلة الدعائية الإيرانية أن «حماس» تحولت إلى التوجه الخميني القائم على فكرة «النصر من خلال الاستشهاد». وتباهت وكالة أنباء الجمهورية الإسلامية (إرنا) يوم الثلاثاء، وهي اللسان الناطق باسم النظام، بأن: «إخواننا في حماس تعلموا دروس عاشوراء الحسين». ويبدو أن الوكالة باتت على قناعة الآن بأن «حماس» أصبحت نسخة سنية من «حزب الله»، وليست فرعاً من أفرع جماعة «الإخوان المسلمين» الأكثر تعقيداً.

ورغم ذلك، فمن غير المحتمل أن تتورط «حماس» في حرب يتمثل هدفها الوحيد في السماح لطهران بتطوير أسلحة نووية. لكن على ما يبدو، اتخذ الإسرائيليون قرارا بعدم خوض أي مخاطر، وأنه من الأفضل تقليم أظافر «حماس» قبل مهاجمة إيران. من ناحية أخرى، فإن انحصار الولايات المتحدة بين إدارتين، قد قدم فرصة إضافية لإسرائيل. وسوف يتعين على باراك أوباما، بغض النظر عن مدى حقيقة مزاعم تعاطفه سراً مع الفلسطينيين، التكيف مع الحقائق القائمة على أرض الواقع.

وبعد كل ذلك، تبقى الحقيقة أن ما يجري في غزة مأساة، وهي مأساة بالمعنى الكلاسيكي، بمعنى أنها دراما تخسر فيها كل الأطراف. في وقت كتابة هذا المقال، فقدت غزة بالفعل ما يزيد على 4000 بين قتيل وجريح. ويعادل ذلك نسبياً قرابة 200 ألف مصري أو إيراني.

لقد خسرت «حماس» بالفعل لأنها دمرت أكبر إنجاز حققه الفلسطينيون منذ عام 1967، وهو فصل قضية فلسطين عن المنافسات الأوسع نطاقاً على النفوذ داخل المنطقة وما وراءها. والآن، أصبح مصير فلسطين معتمداً ـ مرة أخرى ـ على قوى أجنبية، بينها إيران الآن، ولكل منها أجندتها الخاصة.

وستخسر إسرائيل أيضاً لافتقارها إلى وحدة الصف والعزيمة اللازمة للمضي قدماً في هذه الحرب حتى يتم خلق واقع جديد داخل غزة. ربما تنتصر إسرائيل عسكرياً، مثلما فعلت في لبنان، لكنها ستخسر سياسياً لأنها ستترك وراءها «حماس» أصغر ولكن أكثر جرأة ولا تزال قادرة على أخذ أهالي غزة رهائن لاستراتيجية ترجع الكلمة الأخيرة فيها إلى أطراف أخرى.

كما أن ما يطلق عليه «المجتمع الدولي» خاسر هو الآخر، فرغم وجود القادة والدبلوماسيين الكثيرين الذين يتحركون ذهاباً وإياباً كمن مسه الجنون، ما يزال هذا المجتمع عاجزاً عن رؤية الحقيقة، ناهيك من التكيف معها.